إحمد عثمان جبريل .. يكتب:
(اللقاء الذي خرج من الظل) لماذا أخفى البرهان اجتماعه بالأميركيين؟ ومن المستفيد من انكشاف السر؟
في السودان، كما في بقية الصراعات في كثير من الدول (اللقاءات السرية) لا تبقى طويلاً في الظل.. والأسرار حين تنكشف، لا تكتفي بكشف المعلومة، بل تخلط الأوراق وتعيد ترتيب المشهد بأكمله.. فبينما كان الإعياء السياسي والعسكري يُخيّم على بلدٍ أضناه القتال، وتؤرق فيه أصوات المدافع مضاجع الجوعى المحاصربن في مدن غربي السودان، خرج إلى العلن، فالذي كان مخططاً له أن يبقى في الكتمان(لقاء سري) فشل أن يبقى سريا كما خطط (البرهان وبولس) .. ذلك اللقاء الذي وُصف بأنه كان متواصلا “ثلاث ساعات مغلقة على النوايا الثقيلة”، فتح أبواباً كثيرة أمام المحللين والمراقبين: لماذا كان سرياً أصلاً؟ وهل سريته كانت في مصلحة البرهان؟ وماذا عن حلفائه من الإسلاميين الذين يتحركون في الخفاء أكثر مما يظهرون في العلن؟
أن يُجري قائدٌ عسكري لقاءً بهذا المستوى مع مبعوث قوة عظمى دون إعلان مسبق أو لاحق، هو أمر لا يحدث مصادفة. فالسياق السوداني اليوم بالغ الهشاشة، والاصطفافات الإقليمية والدولية أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.. فالبرهان، الذي يقود حرباً وجودية ضد قوات الدعم السريع، يدرك تماماً أن كل خطوة تفاوضية تُعلن على الملأ قد تتحول إلى رصاصة سياسية في صدره، فبين جنرالات الجيش، وشبكة حلفائه الإسلاميين، وكتائب الظل، من قد يرى في التفاوض مع الأميركيين علامة ضعف أو خيانة للموقف “العقائدي” الصلب.
لهذا، يبدو أن القائد العسكري فضل أن يخوض اللقاء تحت الغطاء الثقيل للصمت، على أمل أن يختبر النوايا الأميركية، دون أن يدفع كلفة الإعلان عنها.
لكن ما لم يكن في الحسبان، هو أن اللقاء انكشف، وان أول من نحج في ذلك الزميل شوقي عبد العظيم، ثم تبعته وسائل إعلام تتبعت خط سير الطائرة القطرية، إلى جانب مصادر دبلوماسية لم تحتمل السر، وربما أطراف أرادت حرق الورقة مبكراً. وهنا بدأ التحليل الحقيقي.
ولكن يبرز هنا السؤال المهم.. هل كان الكشف في صالح السلام؟ أقول: نعم، إلى حد كبير. فقد نقل اللقاء القضية السودانية من حالة النسيان الدولي إلى عناوين الصحف العالمية والإقليمية والمحلية، وأعطى مؤشراً بأن واشنطن ما تزال مهتمة، ولو من بعيد، بتوجيه دفة الصراع نحو طاولة المفاوضات.. لكن هذا الكشف، وإن كان مفيداً في نظر المجتمع المدني والعالم، لم يكن بالضرورة كذلك في أعين البرهان أو الإسلاميين في السودان.
فقد حول ذلك الكشف (البرهان) بين فكي كماشة، إذ خرج البرهان من اللقاء بيدين مليئتين بالاحتمالات، لكنه عندما عاد إلى السودان وجد النار قد إشتعلت خلفه، فالمؤسسة العسكرية ليست كتلة صماء، وكثير من جنرالاتها المؤدجلين ينظرون بريبة لأي تقارب مع أميركا التي لطالما دعمت مبادرات مدنية أو مناوئة للعسكر.
فاللقاء المُسرب، قد وضع (الكاهن) في موقف حرج: وجعله يعيش في حالة من التساؤلات والتفكير ، فإذا واصل التفاوض؟ سيُتهم بالخضوع للضغوط الدولية.. وإذا تراجع، فيُظهر تخبطاً قد يطيح بمصداقيته داخلياً وخارجياً.. ولأن البرهان (كاهن) براغماتي لا عقائدي، فإن السرية كانت بالنسبة له مساحة مناورة، لا موقفاً مبدئياً، وانكشافها أضعف أوراقه لا محالة.
ولكن ماذا عن الإسلاميين شركاء الميدان؟ إنهم بالتأكيد حينما خطى (الكاهن) خطوته تلك نحو بولس كانوا خارج الحسابات تماما، لذلك مجرد ان أنكشف الخبر وعم القرى والحضر كانوا الأكثر توتراً من البرهان، وهم ذلك التيار العريض المنخرط عسكرياً إلى جانبه.. هؤلاء الذين تسللوا إلى المشهد عبر بوابة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، ثم زحفوا بالجيش كله نحو الحرب، بمساندة تشكيلات مسلحة ككتائب الظل وكتيبة “البراء بن مالك”، وقوات جهاز الامن، وهولاء جميعا كانوا يأملون من البرهان أن يكونوا جزءاً من أي ترتيبات سياسية قادمة، ولو عبر مقاعد الظل، ولكن اللقاء الأميركي – السوداني لم يشملهم، ولم يستشرهم، ولم يحسب لهم ظلا حتى.. هذا التجاهل، وإن تم التعتيم عليه في الإعلام، لم يمر مرور الكرام داخل الأروقة .
لقد حاول البرهان اللعب بهدوء بين الضغوط الدولية والحسابات المحلية.. أما الإسلاميون، فقد قبلوا مؤقتاً بدور (الذراع المقاتلة) لكن اللقاء كشف لهم – وللجميع – أنهم ليسوا شركاء في الخطة الكبرى.
لقد تفاوض البرهان دونهم، وقد يوقّع دونهم، وربما يتجاوزهم تماماً إذا رست التفاهمات على حل مدني.. وهنا يظهر التناقض، فالتكتم على اللقاء كان مفيداً لهم مرحلياً لأنه جنّبهم الاستهداف الدولي، لكنه في الوقت ذاته همّشهم عن دوائر القرار.
ولكن يبقى السؤال: ماهي خطوة البرهان القادمة.. وهل نحن فعلا أمام خطوة أولى نحو وقف الحرب، أم مجرد لقاء آخر انكشف قبل أن يولد؟ ومثلما للبرهان من خطوة لاوشك ستكون لهم خطوات فما هي ؟ وتحديدا تجاه هذا التقارب (البرهاني الأمريكي) ..إنا لله ياخ..الله غالب.
# حرب_عبثية
# لازم_تقيف
Source