أسرار في خزائن الزجاج..!
ضياء الدين بلال
في السودان، تحفظ الأسرار في خزائن من زجاج، تراها العيون بوضوح، وتبلغها الأيدي بيسر.
فالاستعراض بالمعلومات من أبرز السمات الفارقة في الشخصية السودانية.
وقد التقط د. محمد عبد الله الريح هذه الملاحظة مبكرا، إذ لاحظ أن السوداني يضيق صدره بالاعتراف بجهله. ولإثبات ذلك، يروي “حساس محمد حساس” قصة طريفة عن شخصية وهمية ابتكرها، ثم أخذ يسأل الناس عن عنوانها.
وكما هو متوقع، لم يجد من يقول “لا نعرف”، بل وجد من يفيض بالمعلومات عن هذه الشخصية الخيالية : متى جاء؟ متى رحل؟ وأين يقيم الآن؟ فيما كان حساس يبتسم في سره، متشوقا لمعرفة أين ستنتهي الحكاية.
وتنقل بين الأحياء، مستندا إلى الإفادات التي تبرع بها المارة، حتى وصل أخيرا إلى منزل حقيقي، ورجل حقيقي، بشارب كث وصوت غليظ، استقبله قائلا بثقة: “مرحب… اتفضل… نعم، أنا فلان”!
وللأستاذ عادل إبراهيم حمد ملاحظة لا تقل طرافة؛ فهو يرى أن السودانيين يلتقطون المعلومات بسرعة، ويطلقونها بسرعة أكبر، وإن استعصت عليهم، صنعوها بأنفسهم في هيئة إشاعة يصعب اجتثاثها حتى بعد ظهور الحقيقة. ولديه في ذلك شواهد كثيرة.
ويشير عادل إلى مثال شهير؛ إذ يقول إن هناك رواية تاريخية مغلوطة ما زالت تتردد في المرويات السودانية منذ انقلاب الشيوعيين في 19 يوليو وحتى اليوم، وهي أن الرئيس جعفر نميري، حين تمكن من الهروب من محتجزه بالقصر الجمهوري وقفز من فوق الحائط، وجد الفنان الشهير سيد خليفة يقود سيارة “فولكسواجن”، فركب معه مبتعدا عن منطقة الاشتباك المسلح قرب القصر.
ويضيف أن هذه القصة ترددت وتُدوّن في بعض الكتب، رغم أنها تعرضت لنفي صريح ومكرر من الرئيس نميري والفنان سيد خليفة معا.
والفكرة الجوهرية في ملاحظة عادل أن المعلومات المغلوطة أو الشائعات المختلقة أو المحورة تكتسب بمرور الزمن وكثرة التكرار قوة وصلابة، حتى تصبح أحيانا أصدق من الحقائق ذاتها، بل قادرة على هزيمتها في لحظات المواجهة.
ومن طرائف التاريخ أن رسائل السفير الأمريكي في الخرطوم إلى وزارة خارجيته في أوائل السبعينيات جمعت بين الفضيحة والطرفة؛ إذ كتب في إحداها عن مسؤول “يشرب الخمر، ويحاول الإقلاع عن التدخين، ويريد أن يتعلم الحكم عبر الإمساك بزمام السلطة”.
إن القوانين التي تتيح الكشف عن الوثائق السرية بعد مرور عقود فكرة عظيمة، لأنها تمنح المؤرخين فرصة للاقتراب من الحقيقة، وتضع الرجال في مقاماتهم المستحقة.
فكثيرون، في غياب عين التاريخ، يسهل عليهم الإفلات من أثقال الماضي وامتطاء قطار المستقبل بلا تذكرة، بل والجلوس إلى كل الموائد في كل المواسم، من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء غسل أيديهم بين مأدبة وأخرى..!
*من مقال سابق.
Source