[ad_1]
في أحد أركان الذاكرة المهجورة عثرت على هذه الصورة، والتي كان يغطيها غبار السنين، بدا وجهها يضيء كقنديل في عتمة النسيان. إنها جدتي فاطمة بنت عبد الله، المرأة المكافحة التي “عاشت طويلاً ولم تسرف في الحياة”، كانت تعد أنفاسي خوفًا، وتعتني بي على طريقتها كأنها تريد أن تحميني من العالم كله. وهى هنا تحمل بين ذراعيها فارس عبد الرازق، شقيقي الذي توفي قبل أن تتعرف عليه الحياة، وبعده بأيام، أو أشهر قليلة لحق به شقيقي الأكبر سامي، ثم لحقت بهم هي أيضًا بعد أن تركتني وحيدًا في هذا العالم.
لم أبكِ عليها وهي حية، ولكن عندما كبرت، وتلفت ولم أجدها، ذرفت عليها الدموع لفرط الشوق، دموعًا كما لو أنها انتظرت كل هذه السنوات لتنفجر.
في هذه الصورة النادرة ليس فقط الجدة وحفيدها، وعلى الأرجح هى صورتي معها، تحتشد بتفاصيل موغلة في الحنين. حيطان البيت تحتفظ بدفء الأيام الخوالي، رائحة التراب في الديوان القديم، وشجرة “دقن الباشا” التي كانت أوراقها الصفراء تتناثر في فناء الدار، بصورة فوضوية، ودكان عمي مساعد الذي كان يخبئ كنوز الطفولة، الرتينة المتوهجة وصندوق حلاوة لكوم وكرسي جابر وصفيحة الطحنية، وسكر المكعبات، وبرج الحمام، أو سمه الأحلام. الثوب الأبيض لجدتي، كان يغطي كل شيء، كأنه سحابة من حليب الأبقار.
أتذكرها، جدتي الشامخة، بحكاياتها الطويلة وهي تسهر على أحلامنا، دون أن تمل منا. كانت تستيقظ قبل الفجر لتعد لنا الشاي بنار الفحم و”قدح اللوبة” لفطور العائلة كلها والجيران، وتتصدى بيديها الصلبتين لكالحات الأيام. كانت بمثابة “المِرَق الكبير” الذي يشد أركان البيت، ومنذ رحيلها، انهار كل شيء. الآن، وفي هذا الفراغ المحتشد بالغياب، بالغربة، أتذكرها بقوامها العنيد ووقارها الذي خطف القلوب.. كانت تحبنا جميعًا، وكنت أحبها كثيراً، كم تمنيت لو أن الحياة يمكن أن تؤخذ عنوة، لأعود إلى ذلك الزمان، أو تعود إلينا، فنحظى بجوارها. أسأل الله الحي القيوم أن يتغمدها برحمته الواسعة، ويجمعنا بها في مستقر جنته، في الفردوس الأعلى.
[ad_2]
Source
في أحد أركان الذاكرة المهجورة عثرت على هذه الصورة، والتي كان يغطيها غبار السنين،…
Leave a Comment


