[ad_1]
لا يُثير غبارًا
ضياء الدين بلال
في زمنٍ تتوالى فيه الفجائع وتتكاثر الأحزان، لا تزال بعض المصائب تحتفظ بألمها، مهما امتد بها الزمن.
قبل شهور قليلة، وبينما الحرب القاسية قد شرّدت سكان الخرطوم ودفعتهم بعيدًا عن ديارهم، بلغني نبأ مفجع: وفاة النجل الأكبر لصديقنا وزميلنا الراحل المقيم، الأستاذ عبد المجيد عبد الرازق.
توفي ابنه، طالب الطب بمدينة شندي. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويعوضه عن شبابه الجنة، ويلهم والدته، وإخوته، وأهله، وعشيرته في منطقة قوز الناقة، وعموم البلاد، الصبر والسلوان.
وفي هذه الأيام، تحلّ الذكرى الثامنة لرحيل “مجيدو”، وبهذه المناسبة الحزينة، أعيد نشر هذا المقال، وفاءً لذكراه العطرة.
1
(حتى وهو يُوارى الثرى، لم يُثِر غبارًا تتجنبه جلابيب المشيعين البيضاء).
ملاحظة عابرة قالها الصديق مجدي عبد العزيز، دون أن يلتفت السامعون إلى عمقها، لكنها لخصت سيرة الأستاذ الجليل عبد المجيد عبد الرازق، الصحفي الرياضي البارز، الذي غادر دنيانا قبل ثماني سنوات.
رحل “مجيدو”، وخلّف وراءه سيرةً طيبة، ومدرسةً صحفية رصينة، ظلت تقاوم في زمنٍ تدنّت فيه المعايير، وتزايد فيه الضجيج في مزادات سوق البذاءة.
2
في يوم تشييعه، كانت مقابر الصحافة غارقة في مياه الخريف، والسماء تنهمر كأنها تبكي، أو كأنها تقدم اعتذارًا للأرض عن تأخرها في الحضور ذلك العام.
امتزجت دموع المشيعين بدعائهم، واختلطت بماء المطر، في العشر الأواخر من رمضان، زمن الرجاء، وليلة القدر، وميقات العتق من النار.
غادر عبد المجيد عبد الرازق بعد خمسة وثلاثين عامًا قضاها في بلاط الصحافة، بيضاء ناصعة، لم يشبها لغوٌ ولا نزق.
رحل “مجيدو”، صاحب الحرف النظيف، والوجدان السليم، والقلم النزيه، والضمير الحيّ.
3
ملاحظة الصديق مجدي عبد العزيز، رغم بساطتها، لخصت حياة الراحل المهنية؛ فقد كان كاتبًا متوازنًا، لا يثير الغبار، لا في حياته ولا بعد مماته، رغم عمله في ميدانٍ لا يخلو من المعارك، ومقذوفات الخصومة، والغازات السامة!
كتبت عنه ذات مرة، في مرضه قبل الأخير، مقالًا بعنوان: “عبد المجيد عبد الرازق… دعوة للتأمل”.
قلت فيه: بدأت معرفتي به حين رأيته لأول مرة عام 1986، أثناء زيارة نادي المريخ لمدينة المناقل بعد فوزه بكأس سيكافا. كنتُ حينها تلميذًا في المرحلة المتوسطة، وقد خرجت المدينة بأكملها لاستقبال الفريق.
كان المريخ في ضيافة صالون الحاج علي عشم الله بحي المزاد، ومنذ ذلك اللقاء، تابعت كتابات عبد المجيد التي تميزت دومًا بالاعتدال والموضوعية، والابتعاد عن التشنج والابتذال، بأسلوب يمزج بين السخرية الرقيقة، والفكاهة الراقية، والنقاء الأخلاقي.
4
من حسن حظي أنني زاملته في صحيفة (الرأي العام) تسع سنوات، ثم ثلاثًا في (السوداني).
ورغم طول الصحبة، فإن شهادتي فيه لا تقوم على عاطفة، بل على واقع معاش؛ فقد كان عبد المجيد شخصًا استثنائيًا، صاحب عزيمة فولاذية، ومهنية رفيعة، ووفاء نادر لأصدقائه، سواء داخل السودان أو خارجه.
لذا ظل موضع محبة وتقدير في كل مكان يذهب إليه.
وفي الوقت الذي انصرف فيه كثيرون عن متابعة المنتخب الوطني، ظل عبد المجيد صوته الداعم، يكتب عنه، ويدافع عن حقوقه المهضومة ويحتج على إهماله وتجاهله.
كان رمانة ميزان الاعتدال في الصحافة الرياضية؛ يشجع الهلال حين يمثل السودان، ويقف مع المريخ في كل الأحوال.
وفوق ذلك، ظل إلى جانب المنتخب الوطني في انكساراته قبل انتصاراته.
يحب شدّاد، ويُقدّر معتصم، ولا يجد حرجًا في نقد الاثنين إن استوجب الأمر.
5
رغم أن التكريم الرسمي جاء بعد رحيله، فإن العزاء الوحيد أن “مجيدو” وجد، في حياته، من التقدير والاحتفاء الشعبي ما لا يُنسى.
نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويجمعه بابنه في عليين، في دار النعيم المقيم، وأن يحفظ أسرته من كل سوء، ويبارك في أبنائه، ويسعدهم بالنجاح والتوفيق، ليحيوا ذكراه بالسير على نهجه الكريم.
[ad_2]
Source


