أحمد عثمان جبريل..يكتب:
حين يتكلم فكر الظل .. “نكمل كلنا”
في هذا الزمن الذي تبدّلت فيه علامات الطريق وغابت الحقائق، تأتي كلمة واحدة لتكشف عن طبيعة من يحكمون من وراء الشاشات والستائر.. عبارة واحدة — «نكمل كلنا» — تختصر خيارًا صارمًا: “الاستمرار حتى النهاية مهما كلف الثمن”.
حين يُنطق هذا الشعار، لا نتعامل مع مناظرة سياسية اعتيادية، بل مع فلسفة ترى في الاستمرار مبررًا للدماء والضياع.
«نكمل كلنا». ليست عبارة شعاراتية عابرة — إنها قرارٌ يُترجم بالدم، وعدٌ بفناء لا يميز بين الخصم والصديق، بين من يؤمنون بمنهجٍ سياسيٍّ مُغلق وبين من لم يتبقَّ لهم من الوطن إلا الأمل المتداعي.
حين يُنطق هذا الصوت، لا يتحدّث عن تنازع سياسي عادي؛ بل عن فلسفةٍ ترى في الحرب قيامةً، وفي الاستمرار قِيمةً بحد ذاتها، حتى لو كان الثمن حياة شعبٍ بأكمله. هنا يصبح الحديث عن “إكمال” الحرب الى نهاياتها والتي بالطبع لا نهاية لها كما يقول تاريخ الحروب، مصطلحًا قاتلًا، وغفلةً عن الحقيقة: أن الإصرار على الاستمرار لا يُعني نصراً، بل حُكم إعدام جماعي لروابط المجتمع ومستقبله.
هل نرضى أن تُقاس الوطنية بعدد الجرحى والقُتلى؟ أم أن الإنسان هو المقياس الحقيقي؟ هذا السؤال يترصَّد كل سطرٍ في هذا المقال، لأنه حين يتكلم فكر الظل ويُعلن عن “نكمل كلنا”، علينا جميعًا أن نُجيب بصوتٍ أعلى:” لا للدماء، نعم للسلام”.
«على هذه الأرض ما يستحق الحياة.»
— محمود درويش
1
عندما نُصيح ونسمع: «نكمل كلنا»، يجب أن نفهم المقصود حرفيًا: “ليس استمرارًا فقط في صراع سياسي، بل مؤشرًا على منطقٍ يرى في الوطن ساحة تجارب وميدان كسبٍ لا يرحم.. هذه الكلمات ليست مجرد تهديد بل إعلان عن أولوية للهيمنة على حساب إنسان السودان وحاضره ومستقبله.
2
فكر الحركة الإسلامية الذي يمثّله هذا القول، لم يكن يومًا مشروع دولة بقدر ما كان مشروع سلطة. هو سردية تبني شرعيتها على أسطورة التضحيات المستمرة وعلى افتعال الأعداء. بهذا المنطق يصبح السلام اعترافًا بالهزيمة، فتُفضّل الاستمرارية مهما اشتدت الكلفة.
3
الحديث الذي صدر عن سيد الخطيب أحد منظري المؤتمر الوطني في حلقة الطاهر حسن التوم لا يقع في فراغ؛ هو حلقة في سلسلة طويلة من المواقف التي تُعلّم أن البقاء في المشهد أهم من حياة الناس.. فكر يختزل الوطن في مشروع أيديولوجي، ويجعل من معاناة الشعب ثمنًا يُدفع للمحافظة على امتيازات طبقةٍ لا تتردد في التضحية بما تبقى من وطن.
4
كما أن هذا الكلام يكشف عن ازدواجية خطيرة:” على الجسد السياسي الرسمي أن يقنع الداخل والخارج بأنه يسعى لوقف النزيف، بينما تهمس الظلال بما يلزم من استمرار.. أمام هذه الازدواجية، يصبح الشعب ضحية المفاضلة بين حسابات السلطة وحقه في الغد.”
5
لا يمكن تجاهل أن هناك خيوطًا دولية وإقليمية تلعب دورًا في الدفع نحو التهدئة.. مصادر دبلوماسية مطلعة تشي بأن البرهان يميل إلى مسارات تفاوضية مع الرباعية، تسعى لإنهاء الحرب وترتيب وقفٍ فعلي للقتال.. هذه البوصلة الدبلوماسية قد تكون سبيل النجاة إن أحسن القادة قراءتها.
6
لكن ثمن التفاوض ليس قبلة على جبين الاستغلال.. السلام الحقيقي يتطلب محاسبة، وضمانات، وإشراكاً حقيقياً للشعب.. لا يكون السلام مجرد صفقة تُعيد توزيع النفوذ بين فصائل بعينها؛ بل توافقًا وطنيًا يقطع الطريق أمام منطق الظلال الذي يرفض أي حل يُضعف من هيمنته.
7
أيًّا كانت الأطراف، فإن فضل البقاء عن طريق التفاوض والحلول السياسية أفضل من أن تكون حياة الوطن رهينة لوعود تُشهر كطوق نجاة وتُترجم في النهاية إلى استمرار سيطرةٍ جديدة على حساب الكرامة والأمن.. الفكر الذي يقول “نكمل كلنا” لا يقدّم رؤية للبناء، بل لخرافة البقاء بأية تكلفة.
8
الواجب الوطني اليوم هو أن نرفض صيغًا تُسقط الإنسان أمام الحسابات، وأن نطالب بقيادةٍ تحمِل مسؤولية إنقاذ الشعب لا مشاريع الهيمنة.. لا سلام بلا عدالة، ولا استقرار بلا مستوى يضمن للمواطن حرية العيش الكريم.. وعلى كلّ صوتٍ سوداني أن يرفض أن تُقاس الوطنية بعدد الجرحى أو القتلى.
9
الخيار أمامنا واضح:” إما أن نُسدّد دفعات من الدم ثمنًا عن أحقادٍ قديمة، أو نختار السلام كقيمة شجاعة تُعيد للبلاد جذرها وتحرّرها من عبء فكر الظل”.. «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» — فلنجعل ذلك الوعد رسالة لا رفعة للشعارات، ولنعمل معًا على إنهاء منطق «نكمل كلنا» قبل أن يكتمل فناء الأمة السودانية لأن فكرا مهوسا ظلاميا يود أن يعود للحكم من جديد على أشلاء ودماء ما تبقى من الشعب السوداني.. إنا لله ياخ..الله غالب.
#شبكة_رصد_السودان