الاستاذ ياسر عرمان: يكتب بمناسبة ذكرى ثورة اكتوبر المجيدة
61 عاماً على ثورة أكتوبر
الحركة السياسية السودانية .. والنظام العالمي الجديد
ياسر عرمان
مثلت ثورة أكتوبر 1964 محطة مهمة من محطات الثورة السودانية وهي ذات صلة بموجات التحرر العالمي والبحث والكدح الإنساني من أجل العدالة الاجتماعية والحرية الفردية والرفاهية الجماعية والديمقراطية والمساواة، شكلت ثورة اكتوبر 1964 تمسك الجماهير السودانية بروح عصرها التحرري، كما أنتجت ثورة اكتوبر إبداعاً في مختلف حقول الثقافة والفكر لا تزال بصمته ساحرة. وبعد 61 عاماً يرتبط نجاح الثورة السودانية وانهاء حرب 15 أبريل على قدرتنا في قراءة التحول العميق الذي يشهده مجتمعنا والعالم بأسره، واستثمار كل ذلك لبناء مشروع وطني ديمقراطي يرسخ السيادة والوحدة والعدالة والمواطنة بلا تمييز والتعاون الاقليمي والدولي في عالم يشهد تغيرات مذهلة.
حرب 15 أبريل هي قضية السودان الأولى والسلام العادل هو خيارنا الوحيد نحو المستقبل، لكن قضية الحرب والسلام نفسها ذات جذر وارتباط بالتحولات والصراعات الجيوسياسية التي تجتاح العالم اجمع حتى اضحى النظام العالمي الحالي والمنظمات الاقليمية والدولية التي تعبر عنه بما فيها اكثرها شمولاً كالأمم المتحدة التي اصبحت قصورُ مشيدة وآبار معطلة بالكاد تؤدي بعض واجباتها، واضحت خاوية على عروشها لا تستطيع ان تنتج ارادة سياسية دولية واحدة لانهاء معاناة البشر في مختلف ارجاء الكرة الأرضية.
السودان يتقاطع مع أحزمة جيوسياسية ذات ابعاد اقليمية ودولية بالغة التأثير وعلى رأسها البحر الأحمر والقرن الافريقي والساحل، وهي ذات ابعاد متصلة بحزام الشرق الأوسط الحيوي، والسودان له روابط جغرافية وتاريخية تعج بالتقاطعات الحضارية وحركات المقاومة والهامش والصراعات المتعلقة بنهب الموارد، ان ما يدور داخل السودان من حرب ضروس يتأثر ويتقاطع مع كل الحقائق السابقة.
النظام العالمي الحالي الذي أرسته الحرب العالمية الثانية على وشك النفاد واكمال دورته وإن عالماً جديداً يتشكل. انهيار المعسكر الاشتراكي أدى لسيطرة النموذج الرأسمالي الغربي على مدى العقود الماضية ولكن من الواضح ان النظام العالمي يمر بمرحلة تحولات عميقة وسط دعاوي متصاعدة لبناء تعددية قطبية جديدة، ويشهد عالمنا بروز مراكز نفوذ جديدة وقديمة على رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند والاتحاد الأوربي وتجمع البركس، وبلدان الغرب نفسها تمر بتحولات كبيرة اقتصادية وسياسية وتشهد صعود واسع للشعبوية واليمين المتطرف في البلدان الأكثر تطوراً، من الواضح ان هنالك مرحلة غرامشية تُشي بموت النظام القديم وعدم ولادة النظام الجديد وتشهد التوحش والانفلات في مرحلة الانتقال.
الحركة الديموقراطية في السودان تجد نفسها متقاطعة مع قضايا الحرب الداخلية والتطورات العالمية وقد تيبست اهم تياراتها التي تحتاج للتجديد واجتراح مسارات جديدة والنظرة النقدية لممارساتها ورؤيتها، كل ذلك يأتي في ظل تطورات عالمية متسارعة وفي ظل حرب عملت على تشتيت المجتمع وضربت النسيج الاجتماعي ودمرت البنية التحتية وأصبحت الدولة ومؤسساتها في مهب الريح مما يطرح اعباء غير مسبوقة على الحركة السياسية الديمقراطية، كما ان حرب 15 ابريل نفسها وانقلاب 25 اكتوبر 2021 كان الهدف منهما القضاء على ثورة ديسمبر والانتقال المدني الديمقراطي.
التعددية القطبية تخدم الحركة السياسية الديمقراطية وبلادنا في قضايا كالسيادة والموارد والوحدة ومن جانب آخر فان الثورة السودانية تقف إلى جانب التعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمواطنة بلا تمييز كأعمدة رئيسية في مشروعها الوطني وتكمن مصلحتها في بناء نظام ديمقراطي في ظل التعددية القطبية لا يدعم التوجهات الشمولية ويستفيد من التعددية القطبية في تحسين شروط بناء نظام ديمقراطي يحافظ على سيادة الدولة ومواردها لمصلحة الشعب والتعاون الاقليمي والدولي القائم على توازن المصالح والذي يدعم التنمية الشاملة لبلدان الجنوب في ظل نظام عالمي متوازن.
يقف تيار الإسلام السياسي وهو احد التيارات المهمة في السودان ضد بناء مشروع وطني يسع الجميع، على الرغم من ان الإسلام السياسي يرفع شعارات لامعة ضد دول الاستكبار والإمبريالية ويبدو كانه يناضل من أجل التعددية القطبية، لكن في الوقت نفسه يتبنى مشروع داخلي قائم على القمع ونهب الموارد ومعاداة النساء والتنوع وتركيز السلطة في ايدي طبقة سياسية فاسدة لا تقبل المحاسبة والشفافية وعملت على تدمير الريف وتوسيع دائرة الفقر التي تجلب الحروب في ظل نظام مستبد يعتمد سياسات اقتصادية متوحشة ويرتكب الجرائم والانتهاكات إلى حد الإبادة الجماعية، ويستند على قاعدة اجتماعية ضيقة لا تستديم سلطتها إلا بالقمع مما يؤدي لتكريس القمع الداخلي والتبعية الخارجية ويضعه في مفارقة مع دعواه للنظام العالمي الجديد.
ان المتغيرات العميقة حولنا والمستجدات الاقليمية والدولية تتداخل مع المتغيرات الداخلية وتؤثر على مشروع السلام القادم وإمكانية استدامة السلام والتنمية والديمقراطية، وعلى المستوى العالمي فان قضايا حل النزاعات والسلام تشهد توجهات جديدة تنظر للسلام على اساس المصالح الضيقة والصفقات اكثر من قضايا التغيير الشامل وبناء المجتمعات الديمقراطية الجديدة، والعملية السياسية لانهاء الحرب الحالية تحصر الحلول في طريقين احدهما يقوم على قسمة السلطة ونهب الموارد والتبعية وعدم معالجة جذور الازمة والطريق الاخر يسند ظهره على حائط الثورة السودانية والمشاركة الجماهيرية وهو مشروع ديمقراطي مدني يرفض الاستبداد.
اخيراً بعد مرور 61 عاماً على ثورة أكتوبر المجيدة ومرور قرن على ثورة 1924 فان قوى الثورة السودانية تحتاج إلى اعادة تعريف المشروع الوطني السوداني سيما بعد احداث عظام، تكفي اي منها لضرورة اعادة النظر واعادة تعريف المشروع الوطني من جديد، واهم تلك الاحداث انفصال جنوب السودان والإبادة والتطهير الإثني الذي صحب حروب الريف حتى تمخض عن حرب 15 أبريل 2023 التي حملت في احشائها جذور كل الحروب الماضية.
من الواضح ان قضايانا الداخلية ذات صلة ونسب بالمخاض الذي يشهده عالمنا الكبير الذي يتجه نحو تعددية قطبية ونظام عالمي جديد.
في اعادة تعريفنا للمشروع الوطني لابد لنا من طرح قضية (الاتحاد السوداني) بين دولتي السودان كبداية لمشروع للتكامل الاقليمي يشمل جوارنا الافريقي والعربي في وقت يتجه فيه العالم الجديد نحو التكتلات الكبرى.
Source