#هنا_الجزيرة
في صباحٍ بدا كأنه خرج من ذاكرةٍ قديمة بدت لي الجزيرة اليوم مثل امرأةٍ ناعسةٍ على ضفة النيل، بين الترع والكنارات، تفتح عينيها بين الحين والآخر لتطمئن أن أبناءها ما زالوا أحياء، وكرماء.
المواصلات متوفرة في الميناء البري وصينية السوق المركزي، تبدأ التذاكر من عشرة ألف وأنت طالع، حسب الجهة التي تقصدها، كتبت اسمي على المنفستو، واهتز قلبي كصفحة ماءٍ عبرها طيف قديم، فالذكريات في الجزيرة ليست حوادث عابرة، بل كائناتٌ تعيش معنا، تجلس قربنا على المقاعد، وتنام في جيوبنا مثل النقود المعدنية، مثل أبو النوم ذاته.
هنا الجزيرة
الغبش والترابلة، أولئك الذين ما زالوا يزرعون قمحهم وتجارباتهم في صمت، ويضحكون للسماء كأنهم يعرفونها وتعرفهم.. هنا غواية الفرح وتفاحة الأحلام، وحواء الهاربة من شيطان الفقر.. هنا ملاعب الغولف التي لا تزال خضراء، وفلنكات السكة الحديد التي تحنّ إلى هدير القطارات، وبيوت المفتشين التي تتنفس رائحة الطين الأزرق. هنا مصانع الباقير تصحو عند الفجر، وتقاوم الحرب والدمار.
الأرض في الجزيرة وبدر الله في سماه، تلك قبة حمد ود النحلان يرفّ منها ظلّ الشيخ الترابي، وذاك مسيد ودعيسى، وهنالك اللعوتة، قرية البوني، رد الله غربته، وهو يزرع الكلمات المفعمة بالحكمة والخير والنماء كما يزرع الأرض ولسان حاله ” يالوز القطن قوم تاني فتح وشيل”
هنا السريحة أرض الشهداء والبطولات، ومسيد جدي الجميعابي، وتلك أم مغد والبشاقرة وزينب تغني لجدها “الباسل بابكر، وأنا فوقهم بقول كلام دخولها وصقيرها حام'” وعلى مقربة جنائن الموز في الكاملين، وآثار مقصلة عبد القادر ود حبوبة بطل الحلاوين الأسمر الصنديد ” لو كان بالمراد واليمين مطلوق ما كان بتشنق ود أبكريك في السوق” هكذا رثته أخته رقية.
تلك رفاعة وصوت الأستاذ بابكر بدري يعلم البنات الحروف، وذلك جبل محمود محمد طه الذي استعصم ليُسلّك نفسه.
ثمة هلالية، اليوم هى أرض الشهداء، وبالأمس كان الهادي آدم يستمع فيها إلى أم كلثوم ولقياه من مذياعٍ خشبيٍ قديم.
سلام عليك أيتها الأرض البكر التي لا تكبر.
سلام عليك يا ذاكرة الصبا، ويا نكهة الطفولة، سلام على المعيلق وريفها، على مكركا، على شرق الجزيرة وبطانة أبعلي وحسان، على خضرتها ونوقها المدللة.
سلام على تقابة أزرق طيبة.
سلام على حنتوب، وعركي وود الأمين ومحمد مسكين ” ولا أسيبها مدني وأجي أسكن حداكا”
سلام على اليتامى والشهداء، على فداسي وود سلفاب، والحصاحيصا، على قعدات مصطفى سيد أحمد التي لا يزال صداها يتردّد في عبقرية لم تتكرر. سلام لطفلةٍ يشع الأسى من يتمها، ولأصدقاءٍ ضاعوا بين قنطرةٍ وقنطرة، سلام على مدني وبناتها المكهربات بالجمال، سلام على لوز القطن ومواسم الحصاد، وعلى السكة حديد “وأم تكشو زاد الغلابى”.
سلام على المناقل ورجالها وفرسانها، وعلى الشكينيبة والخواجة عبد القادر وود النورة، هذا الجرح المتجدد، وعلى الشبارقة وجنوب الجزيرة، والجزيرة كلها “من سوبا لي سنار” بجذورها ومجازرها وجزاراتها ومجازاتها، والكثير مما هو في القلب ولا تتسع له السوانح.
عزمي عبد الرازق
Source
#هنا_الجزيرة في صباحٍ بدا كأنه خرج من ذاكرةٍ قديمة بدت لي الجزيرة اليوم مثل امرأ…
Leave a Comment


