أحمد عثمان جبريل..يكتب:
البرهان: لا تفاوض ومستعدون للتفاوض
في ظل التناقضات المتصاعدة في خطاب القيادة السودانية بشأن مفاوضات السلام، يقدم هذا المقال قراءة تحليلية صريحة تكشف ازدواجية التصريحات، وتُفضح المسافة بين الكلام والواقع السياسي الذي يعانيه السودان. رؤية نابعة من قلب الواقع السوداني، تُطالب بالشفافية والصدق في زمن تشتد فيه الحاجة إلى السلام الحقيقي.
❝ اللغة مرآة الفكر، ومن أراد أن يخفي فكره بدّل لغته ❞
— جبران خليل جبران
(1)
في المشهد السوداني الراهن، تتكاثر الأصوات وتتناقض العبارات، حتى ليخيّل للمرء أن الكلمات لم تعد وسيلة للتفاهم، بل سلاحًا لإخفاء النوايا.. بين خطاب الحرب وخطاب السلام، يقف القائد العام للقوات المسلحة، الفريق عبد الفتاح البرهان، محاطًا بضجيج لا يقلّ خطرًا عن الرصاص.. فبينما يعلن في مناسبة عزاء أحد شهداء الحرب: أنه لا تفاوض مع أي جهة كانت، يعود في المناسبة نفسها ليقول إنه مستعد للتفاوض بما يصلح السودان وينهي الحرب.. كأن السودان، المثخن بالجراح، صار حقلًا للتجريب اللغوي أكثر من كونه وطنًا يبحث عن خلاصه.
(2)
يبدو أن البرهان لا يتحدث بلغة واحدة لأنه يخاطب جمهورين متباينين في الرؤية والمصلحة.. فمن جهة، هناك الحاضنة السياسية التي ظل يرتكز عليها منذ اندلاع الحرب، وهي التيار الإسلامي المعروف في الشارع السوداني بـ”البلابسة” الذين خاضوا هذه المعركة جنبًا إلى جنب مع الجيش بكل كتائبهم وأدواتهم الإعلامية والاجتماعية والمالية.. هؤلاء يرون الحرب عقيدة لا خيارًا، ويرفضون أي حديث عن تسوية قد تُنهي الصراع قبل “النصر الكامل” كما يتصورونه. ولذا يحتاج البرهان إلى خطاب يطمئنهم ويُبقي جذوة الحرب مشتعلة في نفوسهم.
(3)
ومن جهة أخرى، ثمة ضغوط دولية وإقليمية تتنامى في كل اتجاه، تُطالبه بالانخراط في مسار تفاوضي برعاية الرباعية الدولية، من واشنطن إلى جدة.. وهي ضغوط لا يستطيع تجاهلها أو الصدام معها علنًا، إذ يدرك تمامًا أن الحرب الطويلة بلا غطاء سياسي ولا موارد اقتصادية باتت مغامرة غير قابلة للاستمرار. هكذا وجد نفسه مضطرًا لأن يمسك العصا من منتصفها: يرفع شعار “لا تفاوض” أمام جمهوره الداخلي، ويُعد في الخفاء ترتيبات للقاء الرباعية ذاتها التي قال عنها “لن نُفاوضها”.
(4)
ولو أن البرهان كان جادًا حقًا في رفضه القاطع للرباعية، لقال بوضوح وصراحة: “لن نذهب إلى واشنطن نهاية الشهر الجاري لخوض ترتيبات حول السلام ووقف إطلاق النار.” لكنه لم يفعل. بل إن الشواهد تشير إلى العكس تمامًا؛ فهناك استعدادات واتصالات وتحضيرات تُجرى فعليًا للقاء المنتظر.. وهنا تتكشف المفارقة بين القول والفعل، بين ما يُعلن على المنابر وما يُدبَّر في الغرف المغلقة.
(5)
في هذا المفترق، تتحول اللغة إلى أداة لتنفيس الاحتقان لا للتعبير عن الموقف.. فالرجل يدرك أن حاضنته لم تُهيَّأ بعد لأي تحوّل في الموقف، وأن الإسلاميين، كحزب أو كتيار فكري، لا يزالون منقسمين بين من يريد استمرار الحرب حتى آخر طلقة، ومن يفضل التموضع بعيدًا عن العاصفة انتظارًا ليومٍ جديد.
لذا جاءت تصريحاته كصمام أمان مؤقت:”تُهدئ الداخل وتُرضي الخارج، لكنها لا تبني جسرًا متينًا بين الاثنين”.
(6)
غير أن هذه المراوغة اللغوية، وإن بدت ذكية في المدى القصير (حبلها قصير) كما أنها تُعرّي على المدى الطويل أزمة القيادة السياسية والعسكرية في السودان: “غياب الشفافية وضياع الرؤية الجامعة”.. فالمشهد العام لا يحتمل ازدواجية الخطاب، والشعب الذي أنهكته الحرب يريد وضوحًا، لا لعبة كلمات تزرع مزيدًا من الشك. واللغة، مهما تزيّنت، لا تستطيع أن تخفي رائحة البارود أو دموع النازحين.
(7)
إن محاولة البرهان التنفس عبر خطابين متناقضين هي في جوهرها انعكاس لعجز أكبر:” عجز السلطة عن قول الحقيقة لجمهورها”.. فحين يتحول القائد إلى مترجمٍ بين جبهتين داخليتين متنازعتين، يفقد قدرته على قيادة أيٍّ منهما بصدق.. فالكلمات التي يُراد بها التهدئة تصير، مع الوقت، وقودًا جديدًا للتشكيك، وتفقد السلطة هيبتها أمام جمهورها وحلفائها معًا.
(8)
ربما يدرك البرهان، في أعماقه، أن الحرب لا تُحسم بالبندقية وحدها، وأن السلام الحقيقي لا يُبنى على الخداع اللغوي. لكنّ ما يمنعه من الاعتراف بذلك ليس الجهل، بل الخوف:”خوف من أن ينهار تحالفه الداخلي قبل أن تضع الحرب أوزارها، وخوف من أن يفقد الشرعية أمام الخارج إذا استمر في المكابرة”.. وهكذا يصبح التصريح المتناقض وسيلة للبقاء، لا وسيلة للحقيقة.
(9)
إلا أن الشعوب، مهما أرهقتها المعارك، تملك حاسة فطرية تميّز بين الصدق والمناورة. والسودانيون، الذين جرّبوا ويلات الحرب والوعود، لم يعودوا بحاجة إلى لغة مزدوجة ليعرفوا من يريد السلام ومن يتخذه شعارًا عابرًا.. فالمسافة بين الخطاب والواقع لم تعد تحتاج إلى فلاسفة لشرحها، بل إلى ضمير يجرؤ على قول ما لا يقال.
بقى ان نقول:” قد يغفر التاريخ أخطاء الحرب، لكنه لا يغفر (خيانة الكلمة).. لأن الحرب، مهما طالت، تنتهي، أما الكلمة الكاذبة فتبقى شاهدًا على زمنٍ جُرِّدت فيه الحقيقة من صوتها. والسودان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى صوتٍ واحدٍ صادق يقول ما يفعله ويفعل ما يقول، قبل أن تضيع البلاد بين جملتين متناقضتين: “لا تفاوض” و”نحن مستعدون للتفاوض.”.. إنا لله ياخ..الله غالب.
#شبكة_رصد_السودان
Source