منذ اندلاع الحرب في السبت 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، لم تهدأ البلاد، ولم تتوقف آلة الحرب عن الدوران. تحولت العاصمة الخرطوم إلى ساحة أطلال، وامتدت المعارك إلى دارفور وكردفان والجزيرة وسنار والنيل الأزرق، وسرعان ما انفجرت الأوضاع في مناطق كانت تُحسب آمنة.
الحرب التي بدأت كصراع بين جناحين من السلطة، انزلقت إلى ما يشبه الانهيار الشامل للدولة، وتحوّلت إلى أزمة متعدّدة الوجوه: إنسانية، سياسية، أمنية، إقليمية يصعب قراءتها أو التكهن بمآلاتها خصوصا وطرفيها متعودان علي دسدسة الأخبار الحقيقية و خبيران في بث الدعاية السياسية الحربية مع توفر كم هائل من إعلاميين وسياسيين مدفوعين الأجر يعملون لهذا أو ذاك .
في هذا السياق، صدر بيان الرباعية — مصر، السعودية، الإمارات، والولايات المتحدة — كمحاولة تبدو في ظاهرها دعوة إلى التهدئة، وفي باطنها تنسيق متأخر بين أربع قوى ترى أن مصالحها المباشرة في السودان متقاطعة وتدير أمرنا بالتشارك ، وربما رأت أن استمرار الحرب دون تدخل يضعف قدرتها على التأثير في ترتيبات ما بعد النزاع.
البيان تحدّث عن هدنة إنسانية، ووقف للدعم الخارجي العسكري، وانتقال إلى حكم مدني، وابعاد الإسلاميين عن مستقبل السلطة في السودان… لكنه لم يخرج عن حدود العموميات، ولم يضع آليات واضحة، ولم يقدّم ضمانات تنفيذ. ورغم لغته التي توحي بالحرص على استقرار السودان، إلا أن مضمونه يعكس أولًا تقاطع مصالح الدول الأربع، وسعيها لإعادة ضبط الوضع بما يخدم أولوياتها الأمنية والجيوسياسية.
فمصر، التي تنظر للسودان من منظور أمن المياه والاقتصاد والحدود، تخشى من تفكك الدولة السودانية أو صعود أطراف غير منسجمة مع رؤيتها لمستقبل الإقليم. بالنسبة لها، بقاء الجيش كهيكل موحّد على رأس السلطة ضمانة للاستقرار، حتى وإن كان ذلك على حساب العملية السياسية. السعودية، من جانبها، تنظر إلى البحر الأحمر وضرورة تأمينه، وترغب في تجنّب التورط في صراعات مباشرة، لكنها لا تملك ترف تجاهل ما يحدث على حدودها البحرية والبرية. الإمارات، صاحبة العلاقة الوثيقة بعدد من الأطراف داخل الصراع والأبرز مع الدعم السريع ، تواجه ضغوطًا متزايدة لتوضيح موقعها من الحرب، وتسعى لإعادة تموضع سياسي دون أن تخسر النفوذ الذي بنته عبر سنوات. أما الولايات المتحدة، التي تراجعت قدرتها على التأثير في شرق إفريقيا في ظل صعود روسيا والصين، فهي تحاول من خلال البيان استعادة موضع قيادي في الأزمة، وتقديم نفسها كطرف قادر على تجميع الفرقاء.
لكن، بالنظر إلى مضمون البيان وطبيعته، يتضح أنه لا يُشكّل مبادرة حقيقية للحل بقدر ما يمثل لبنة تسوية سياسية بين الدول الأربع على كيفية إدارة الملف السوداني مستقبلا ، لا حله. فهو لا يحمل مشروعًا تفصيليًا لإنهاء القتال، ولا يقدّم تصورًا لمعالجة الجذور العميقة للنزاع، ولا يتطرق لمسألة العدالة أو المحاسبة. بل يتمحور حول نقاط فضفاضة يمكن تفسيرها بطرق متعددة، الأمر الذي يجعله أقرب إلى إعلان نوايا يراد به إرسال رسائل سياسية متبادلة، أكثر من كونه ورقة طريق للخروج من الحرب.
تجارب المنطقة القريبة تقدّم دروسًا واضحة في هذا الصدد. فاليمن مثلًا شهد بيانات شبيهة، وهدنات مؤقتة، واتفاقات لم تُنفّذ. هناك، كما في السودان، كانت المبادرات الدولية أحيانًا وسيلة لتثبيت أمر واقع، أو لتمرير مصالح إقليمية، لا لفرض حل نهائي. في ليبيا أيضًا، رغم تعدد المسارات الأممية والإقليمية، لم تُنقذ البيانات السياسية البلاد من الانقسام، بل أسهم بعضها في تعقيد الخريطة أكثر. وفي الحالتين، كما هو الحال الآن في السودان، ظلّ غياب العدالة، والانقسامات المؤسسية، والتدخلات الخارجية، والعجز عن فرض تنفيذ فعلي لأي اتفاق، هي الأسباب التي أجهضت كل مبادرة.
البيان الرباعي هذا في صيغته الراهنة، لا يُقدّم مخرجًا حقيقيًا للحرب بقدر ما يعكس رغبة في التحكم بمسارها.
ومن خلاله تسعى الدول الأربع إلى منع تحلل السودان الكامل وابقاء جثته، دون الذهاب إلى مستوى التدخل المباشر أو فرض ترتيبات صلبة. ولهذا فإن البيان لا يتحدث عن قوة مراقبة، ولا عن جدول زمني واضح، ولا عن آلية محاسبة لمن يخترق الهدنة. بل يضع الأمور في إطار “الانتقال المدني”، وهي عبارة أصبحت، بعد عامين من الحرب، لفظًا بلا مضمون، ما دامت لا تترافق مع رؤية حقيقية لبناء مؤسسات جديدة، وإعادة هيكلة القوى المسلحة، وتأسيس عقد اجتماعي جديد.
ورغم دعوته لوقف الدعم العسكري الخارجي، فإن البيان لا يحدّد مصدر هذا الدعم، ولا يعلن عن آليات للرقابة أو العقوبات. وهذا في حد ذاته إشارة إلى أن الهدف قد لا يكون وقف الحرب، بل ضبطها ضمن حدود لا تهدّد مصالح الرباعية. أي أن المطلوب هو “إدارة النزاع”، لا إنهاؤه. وهذا النمط، الذي رأيناه في تجارب أخرى، غالبًا ما ينتج هدنة غير مكتملة، ومفاوضات تطيل أمد الأزمة، وتسوية هشة تُزرع في تربة الصراع دون أن تُزيل أسبابه.
أما داخليًا، فالسودان لم يعد بلدًا يمكن إدارته من غرفة مفاوضات واحدة. التفتت العسكري، وتعدد المليشيات، وغياب السلطة المدنية، والانهيار الاقتصادي، كل ذلك يجعل من أي حل مركزي مهمة شبه مستحيلة دون عملية إعادة بناء شاملة. والبيان لا يخاطب هذا الواقع، بل يقفز فوقه، معتمدًا على فرضية أن الحرب ما زالت بين طرفين قابلين للضغط. في حين أن الوقائع تقول إن الصراع صار أوسع من ذلك، وصار أشد استعصاءً على الحلول التقليدية.
ومع كل ذلك، فإن البيان لا يخلو من أهمية سياسية. فهو يُعبّر، ولو متأخرًا، عن إدراك متزايد بأن استمرار الحرب يضر بالجميع، حتى من كانوا يتصورون أنهم قادرون على كسبها أو الاستفادة منها. لكن قيمة البيان لا تُقاس بنواياه، بل بما يُبنى عليه. وإذا لم يتحوّل إلى مبادرة عملية تتضمن إجراءات حقيقية، فإن السودان مرشّح لدخول مرحلة جديدة من التمزّق، تزداد فيها الفجوة بين قوى السلاح والمجتمع، وتضيع معها أي فرصة لسلام حقيقي.
السودان لا يحتاج إلى بيان جديد، بل إلى إرادة حقيقية لكسر حلقة الإفلات من العقاب، وإنهاء عسكرة السياسة، وفرض مسار مدني حقيقي لا تُملى شروطه من الخارج. إن استمرار بعض الأطراف، خاصة تلك المرتبطة بالحركة الإسلامية، في رفض أي حل سوداني-سوداني، لا يزيد فقط من التدخلات الخارجية، بل يسرّع أيضًا احتمالية فرض حلول ناقصة من الخارج كما حدث سابقًا في السودان. وكل مبادرة لا تبدأ من هذه الأسس، هي مجرد محطة عابرة في طريق حرب طويلة.
#احنا_بنستحق_السلام
#العدالة_المصالحة
#لا_للحرب
Source