#بناء_الدولة
قرار تقييد صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات في دولة تخوض صراعاً داخلياً مريراً وتواجه استهدافاً خارجياً ممنهجاً يرمي إلى تقسيمها، معضلة استراتيجية مركّبة تتطلب تحليلاً معمقاً لأبعادها المتشابكة.
إن أحسنا الظن بالرئيس البرهان وقيادته العسكرية التي تسانده في مجلس السيادة، فقد يُفسر القرار على أنه خطوة إجرائية حاسمة لتكريس مبدأ دولة المؤسسات وسيادة القانون، حتى في خضمّ الظروف الطارئة.
فالهدف الأسمى لتقييد الصلاحيات المطلقة للأجهزة الأمنية هو تحصينها من الانزلاق إلى مربع القمع وانتهاك حقوق الإنسان.
ويُعتبر هذا التوجه محاولةً لبناء جسور الثقة مع المواطنين والقوى السياسية عبر إظهار التزام القيادة بالعدالة والشفافية، الأمر الذي يُعد ركيزة جوهرية لتوحيد الجبهة الداخلية ودرء مخاطر التقسيم.
كما يمكن النظر إلى هذا التقييد، الذي تصر عليه القيادات العسكرية في مجلس السيادة، بوصفه جزءاً من مسعى أوسع لتفكيك نفوذ وسلطة قوى “الدولة العميقة” المرتبطة بالنظام السابق.
على الرغم من وجاهة المبررات السابقة، فإن أجهزة الأمن والمخابرات تمثّل، في ظل الحرب الداخلية والاستهداف الخارجي المباشر، خط الدفاع الأول عن وجود الدولة وكيانها.
لذلك فإن تقييد الصلاحيات على نحو غير متوازن قد يشلّ قدرتها العملياتية على جمع المعلومات الاستخباراتية الاستباقية، والتصدي لخلايا التجسس والتخريب ومواجهة عناصر التمرد داخل المدن الآمنة بالكفاءة والسرعة اللازمتين وهو ما يُفسر من قبل حتى العامة من المواطنين على أنه تهاون غير مبرر يهدد الأمن القومي من قبل القيادة السيادية في الدولة.
كما أن التدخلات الخارجية تستغل عادةً نقاط الضعف الأمنية والسياسية ومن ثم، فإن تقييد صلاحيات الجهاز الرئيسي المكلّف بحماية الأمن القومي قد يفتح الباب واسعاً أمام قوى أجنبية لزيادة نفوذها وتغلغلها.
إن تقييد صلاحيات الجهاز المسؤول عن الأمن في الدولة يُعد قراراً غير عملي في زمن الطوارئ الكبرى، حيث تتطلب إدارة الحرب مركزية وسرعة فائقة في اتخاذ القرارات الأمنية الحاسمة لحماية المصلحة الوطنية العليا.
يواجه الرئيس البرهان معضلة التوازن بين ضرورات الأمن الطارئ ومتطلبات الشرعية والحكم الرشيد عليه فإن نجاحه في تحقيق هذا التوازن الاستراتيجي هو المعيار التاريخي الذي سيُقيّم به قراره بتقييد صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات.
ولتحقيق الأمن الداخلي المستدام في هذه الظروف العصيبة، يجب على قيادة الدولة تبني استراتيجية متعددة الأبعاد تجمع بين الحزم الأمني والعدالة السياسية والاجتماعية، على أساس ضبط الصلاحيات لا شلّها.
واول القرارات الضرورية هو بإعادة صلاحيات “الأمن الداخلي” إلى جهاز المخابرات العامة ليعود إلى تسميته ووظيفته السابقة “جهاز الأمن والمخابرات الوطني” وليس الاكتفاء بجعله “جهاز المخابرات العامة” فحسب، مع التأكيد على أن المعلوم هو أن الجهاز سُلبت منه صلاحيات الأمن الداخلي من قبل الرئيس البرهان.
كما يجب إخضاع جهاز الأمن والمخابرات العامة لرقابة صارمة من السلطتين القضائية والتشريعية (عبر لجنة برلمانية متخصصة للأمن القومي)، لضمان المساءلة الفورية عن أي تجاوز دون إعاقة للعمل الاستخباراتي الحيوي.
يتطلب ذلك الشروع العاجل في تنظيم انتخابات نيابية عاجلة لاختيار ممثلين للشعب يتولون صياغة الدستور الدائم ومراقبة أداء الجهاز التنفيذي للدولة ككل.
كما يجب على قيادة الدولة توفير الإمكانيات الكاملة لجهاز الأمن والمخابرات، لمواجهة التغلغل الخارجي والعملاء وتخصيص فرق عالية الكفاءة لهذه المهمة تحديداً، مع إبعاد الجهاز عن التدخل في الشأن السياسي الداخلي، وتأمين الحدود وشبكات الإمداد عبر إغلاق منافذ التهريب والتسلل التي تستغلها القوى الخارجية لتمويل وتسليح المتمردين.
ولبناء الدولة السودانية على أسس ديُمقراطية وطنية ما بعد حرب 15 إبريل 2023م ، تقتضي الضرورة القصوى الشروع في مصالحة وطنية شاملة وفورية عبر فتح حوار جاد ومسؤول يضم كافة الأحزاب والقوى السياسية، مع استثناء المتمردين والأحزاب الداعمة لهم أو العميلة للأجندات الأجنبية وصولاً إلى مصالحة وطنية شأملة وعادلة تحقيق توافق وطني واسع.
كما لا بد من العمل على بذل جهود حثيثة لبناء هوية وطنية جامعة تكون بمثابة القاسم المشترك الأسمى لتجاوز الانقسامات والتصنيفات العرقية أو الطائفية الضيقة وتكرس الولاء المطلق للدولة ومؤسساتها الدستورية بوصفه الانتماء الأرفع والأوحد، مع إرساء نظام حكم رشيد وعادل يستند إلى مبادئ النزاهة والشفافية.
يستوجب ذلك شن حملة شاملة وجذرية لمكافحة الفساد الذي يشكل وقوداً مستمراً للانقسام الاجتماعي والسياسي ولا يمكن إرساء قواعد الاستقرار دون تحقيق العدالة التوزيعية في الثروة والسلطة والخدمات الأساسية.
هذا الإجراء الحيوي كفيل بإنهاء المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي غالباً ما تستغلها القوى الخارجية كأرضية خصبة لتغذية بؤر التوتر، مما يحصّن الجبهة الداخلية بفاعلية.
وعلى الصعيد الخارجي، فيتطلب الحفاظ على وحدة وسلامة الدولة اعتماد دبلوماسية حازمة وفاعلة في مواجهة التدخل الأجنبي بتفعيل كافة القنوات الدبلوماسية ، وبناء وتفعيل تحالفات إقليمية ودولية استراتيجية داعمة لوحدة الدولة وسيادتها واستغلال هذه التحالفات لتشكيل جبهة دولية صلبة قادرة على ردع ومواجهة الأطراف المعادية للمصالح الوطنية العليا.
إن معركة الحفاظ على وحدة الدولة في ظل الحرب لا تُحسم فقط بقوة الأجهزة الأمنية، بل تُحسم بشرعية الدولة في عيون مواطنيها وبمدى قدرتها على توفير العدل والأمن الشامل.
القائد الذي ينجح في الموازنة بين الحاجة الملحة للأمن القومي وضرورة كبح جماح السلطة، هو من يقود الدولة إلى بر النجاة والاستقرار على المدى الطويل.
المستشار/ محمد السر مساعد
Source