الضد النوعي في السودان: عندما تتحوّل الدولة إلى مصنع لتفريخ الأزمات،
من بين أهم الاستراتيجيات التي استخدمتها الأنظمة وأجهزة المخابرات في إدارة الخطر والمعارضة، استراتيجية “الضد النوعي”، وهي منهج يعتمد على دعَم كيان من نفس نوع الكيان المُهدِّد، من حيث الدين أو الانتماء السياسي أو الجهوي، لكنه يحمل أفكاراً مختلفة أو مشوَّشة، ويوظَّف لاختراق الفئة المستهدفة، وتمييع رسالتها، وإدخالها في صراع داخلي يُضعفها ذاتياً.
في الحالة السودانية، تم تطبيق هذه الاستراتيجية مراراً، لكن بشكل غير منضبط، بل في كثير من الأحيان دون وعي كامل بعواقبها، حتى تحولت من أداة لإدارة الصراع إلى سبب مباشر في تعقيده.
على سبيل المثال، لا تُواجه الدولة تياراً دينياً يهدد النظام بوسائل مباشرة، بل تُفسح المجال لتيار آخر مشابه شكلاً، معارض فكرياً، وتُوفَّر له المنابر والدعم والتمويل، ليبدو وكأنه “صوت من الداخل” وليس صراعاً من السلطة -الخليج نموذج ناجح في الضد النوعي الديني- .
المخابرات في السودان عن طريق عبدالغفار الشريف وطه وقوش ، و خلال سنوات عديدة، طبقت هذه الاستراتيجية على مستويات متعددة:
داخل التيارات الدينية
بين الحركات الصوفية
في صفوف الأحزاب التقليدية
داخل الحركات المسلحة
وحتى بين قوى الثورة نفسها
لكن المشكلة لم تكن في القدرة على صناعة “الضد”، بل في العجز عن استيعابه لاحقاً. فكل كيان صُنع أو دُعم بهذه الطريقة، تحوّل لاحقاً إلى كيان مستقل، له مصالحه، قياداته، ورغبته في السلطة.
وهكذا تحوّلت الدولة، تدريجياً، إلى مصنع تفريخ غير محكوم، لا يُنتج حلولاً بل أزمات، ولا يصنع كيانات وطنية بل قوى تتنازع على السلطة.
في ظل غياب بنية مؤسساتية قوية، وبرلمان منتخب، وآليات محاسبة، لم تعد المناصب تُمنح على أساس الكفاءة أو الرؤية، بل على أساس الولاء والسلاح والضغط.
وبما أن الدولة أصبحت غير قادرة على تمويل كل هذه الكيانات، فإن الولاء انتقل إلى من يملك المال: دول خارجية، أو مراكز نفوذ تسعى لتوظيف تلك الكيانات لمصالحها.
وبهذا، لم تَعُد السيطرة على “الضد النوعي” ممكنة. لقد خرج الجميع عن يد الدولة، وتحول السودان إلى ساحة مفتوحة، تتزاحم فيها عشرات الأحزاب والميلشيات والمنابر والتنظيمات، دون بوصلة جامعة أو مشروع وطني موحد.
من أخطر نتائج هذه الاستراتيجية، أن الدولة نفسها شجعت على حمل السلاح. فالصراع المسلح أصبح طريقاً للحصول على الاعتراف السياسي، والمشاركة في السلطة، والمناصب.
وهذا ما كرّس منطق “الغنيمة لا المسؤولية”، حيث يرى كل من يحصل على منصب أنه ناله بقوة الضغط، لا من أجل الشعب أو خدمة البلاد.
كلما نشأ تهديد، يُصنع له ضدّ. ثم ينشق الضدّ ليصبح تهديداً جديداً، فيُصنع له ضدّه أيضاً… وهكذا دواليك.
دون رؤية أو ضوابط، تصبح هذه الاستراتيجية قنبلة زمنية، تقود الدولة إلى التفكك بدل الاستقرار، وتُضعف الثقة بين المكونات، وتُعقّد أي محاولة حقيقية للإصلاح.
لكسر هذه الدائرة، لا بد من الاعتراف بأن صناعة “الضد النوعي” ليست حلاً دائماً، بل أداة مؤقتة تتطلب وعياً عالياً وقدرة على الضبط والاحتواء.
Source