[ad_1]

🌿 نعناع الجنينة +18
عقب مشاهدة فيلم ضي، والظهور النادر للفنان محمد منير مع الممثلة السودانية إسلام مبارك، وبين يدي النيل والقمر، وجدت نفسي في حديثٍ ممتد مع مجموعة من الإخوة المصريين، حديث تهادى مثل قاربٍ صغير على صفحة سليل الفراديس، إذ كنا نتحدث عن الفن تحديداً، عن الذاكرة، وعن القواسم الثقافية المشتركة. قلت لهم: نحن نعرف الكثير عن مصر، أما أنتم فلا تعرفون عن السودان سوى ما تسمعونه في نشرات الأخبار تقريباً، وربما القليل عن المامبو السوداني والليلة بالليل، لكن بيننا ما هو أعمق من السياسة، وأجمل من التاريخ الاستعماري. تلك الامنيات التي سكنت روح التجاني يوسف بشير، وعرفت طريقها إلى صوت أم كلثوم حين نبشت في ديوان الهادي آدم عن أغداً ألقاك. وهو الشعور نفسه الذي ترجمه الكابلي وتاج السر حسن ” ملءُ روحي أنتِ يا أختَ بلادي”.
ومن هذا الممر النيلي الدافق، أطلت علينا نعناع الجنينة.
تحدثنا عنها كما لو أننا نتحدث عن شخص من العائلة،
عن الجعافرة والعبابدة، وعن وادي حلفا التي قاومت روحها الغرق فيما قاومت رائحة النعناع وطأة النسيان. قلت لهم: «نعناع الجنينة» ليست مجرد لحنٍ جميلٍ يتهادى على ناي محمد منير، ولا حتى صوت سيد الركابي الذي ورث عن الصعيد شجنه، بل هي جسر من وجدانٍ واحد، يغرف من النبع ذاته الذي يروي وادي النيل من أسوان إلى دنقلا، وأبعد من ذلك بكثير، نبعت من الجنوب النوبي، من بيئةٍ تعرف أن الكلمة إذا خرجت من القلب، وصلت إلى مشاش الروح، ولعل ما يلفت النظر حقًا هو صلتها بفن النميم، لا أعرف هل له علاقة بايقاع التمتم أم لا؟، ولكن المؤكد أنها خضعت لأكثر من مباراة شعرية، وزانتها الملهمات الجميلات، كل عاشقٍ يضيف لها بيتاً جديداً، كما لو أنه يسقي الأغنية من قلبه، أو بالأحرى قصته، وما بين ود شوراني وود ضحوية، وما بين جدّنا الحاردلو وأخيه عبد الله ود أبسن في مسدار المطيرق، تاريخ طويل من المساجلات التي يُحكَم فيها الإبداع بالدهشة لا بالمنطق، وبالوجدان لا بالقافية، ولا تصلح للشرح.
دعك من حاكم الخرطوم، فكلمات مثل الحِلّة وأمبارح عصر وناقتنا، والجنينة ذاتها تكاد تكون موغلة في السودانية، نفحة من تراب اللهجة القديمة التي لا تعرف الحدود، كما لا يعرف النيل حدا حين يفيض على ضفتيه بالخصب والحياة، ولذلك عاشت نعناع الجنينة كل هذا العمر، ولا تزال تتجدد، فهى حكاية شعبين يلتقيان في مجرى، تبارك ذلك المجرى.
عزمي عبد الرازق
[ad_2]
Source


