الوطن من مكانٍ آخر.. تجربة المنصوري المُلهمة
عزمي عبد الرازق
تزامنت لحظة دخولي لمقر شركة الروابي للألبان في بر دبي، وتحديدًا في منطقة الخوانيج، مع حفل تخرُّج الدكتور أحمد التجاني المنصوري من هارفارد، متوَّجًا بشارة برنامج كبار القادة التنفيذيين في العالم الذي استمر لمدة عامين “SELP”. وقد ارتقى بذلك موضعًا ما كنا لنبلغَه إلا بشق الأنفس. أمامك مجسَّمٌ لبقرة فاقع لونها تَسُرُّ الناظرين، قد فضَّ سرَّها هذا الرجل. خليط من الوجوه غلب عليها السُّمرة، ويبين هذا انحيازه لبلده، دون محاباة.
على الأريكة أيضًا كتاب ضخم، يحتوي بين دفتيه “50” شخصية لمعت في سماء الخليج، كان بينهم الدكتور المنصوري بالطبع. الجدار مزدان بالدروع والأنواط والشهادات التقديرية، وتاريخ حافل بالأعمال الجليلة. أما هو، فأكثر ما يميزه تواضعه الجم وسودانيته البهية، وحبه للخير وورعه غير المصطنع.
لكن دعونا نبدأ من الوراء؛ ففي الوقت الذي كانت فيه مارشات الإنقاذ تعزف لحن الاستيلاء على السلطة قبل ثلاثة عقود، كان الدكتور أحمد التجاني يبذر حلمه في صحراء الإمارات العربية المتحدة. غاصت أقدامه في الرمال، هناك ولا شيء غير الرمال؛ لا ماء ولا خضرة ولا طقس محفز للحياة، إلا أنه ومع تلك الظروف القاسية انتدبته الهيئة العربية للإنماء الزراعي لتأسيس مشروع الروابي للمنتجات الغذائية، وهو بذلك كمن ينحت بأظافره على الصخر. فكيف نجح الرجل في المهمة المستحيلة وصنع أهم مشروع غذائي في الخليج؟ ولماذا لم يستفد السودان من تجربته الطويلة الممتازة؟
درس بروف التجاني في حنتوب، وحاز العديد من الأوسمة العلمية والمهنية، وحصل على الدكتوراه في بريطانيا. هو الآن من الشخصيات الاعتبارية في الخليج عمومًا، يهندس وقته بالثانية، ويدير عمليات تجارية لا تُقدَّر بثمن.
بدأت القصة باستيراد 500 بقرة هولندية على متن طائرات لوفتهانزا، وقد وطئت الأبقار بلادًا كانت تعتمد بالكامل على الألبان المجففة المستوردة. لكنه في غضون سنوات قليلة سقاهم الحليب الطازج والعصائر الطبيعية، وحقق الاكتفاء الذاتي لدرجة التصدير إلى دول الجوار. لقد نهضت الإمارات حقًّا بأيادٍ سودانية محضة، وخير دليل هو أحمد التجاني، ومن قبله المهندس كمال حمزة، الذي ما انفكت صورته مع الشيخ زايد تذكر أبناء الإمارات بعظمة هذا الشعب، والمئات مثلهم، خبرات متميزة لم نستفد منها بأي حال، فنحن بارعون جدًّا في إهدار الموارد والفرص والكوادر البشرية.
قلت لأحمد التجاني وأنا أتبادل معه أطراف الحديث: “لماذا لم تفكر في صناعة مشروع موازٍ في بلدك؟” كانت إجابته البديهية حاضرة، ذلك حلمه الكبير، وقد سعى له آناء الليل وأطراف النهار يطلبه حثيثًا، وهو يعمل حاليًا على مشروع وطني بمثابة الخلاص.
الفكرة ببساطة سوف تنقذ السودان للأبد وسوف تحوله إلى دولة ثرية في غضون عامين أو أقل. يضرب الرجل نموذجًا بما هو متاح من ثروة حيوانية، ما هو متاح فقط! كانت لدينا في السبعينيات نحو 34 مليون رأس من الأبقار تقريبًا، فإذا افترضنا الآن العمل على 17 مليون رأس، مع المياه والمزارع الوفيرة والأيدي العاملة، يمكن أن تنتج البقرة الواحدة على الأقل نحو ثلاثة آلاف لتر، ويمكن أن يوفر السودان خلال عام واحد من اللحوم والألبان نحو مئة وعشرين مليار دولار! نعم، الرقم ليس خاطئًا ولا مبالغًا فيه. تخيل هذا المبلغ وعجزنا السنوي فقط خمسة مليارات دولار، ونحن نلهث خلف وديعة خليجية، أو قرض أوروبي غير جيد، بهدف استيراد القمح والوقود والدواء.
هذا المشروع المتاح يمكن أن يدر على السودان بأقل جهد 120 مليار دولار. هي الآن موجودة فقط من الأبقار وليس الماعز والضأن، وما يحفز أكثر أن مجلس التعاون الخليجي استورد العام الماضي من البرازيل (البعيدة تلك) لحومًا بعشرات المليارات، بينما نحن الأقرب وتجمعنا الموانئ والأواصر لم نفكر في سد تلك الحاجة! وحتى إذا عجزت الحكومة يمكن أن ينهض هذا المشروع بمدخرات المغتربين، على أن يكونوا شركاء في النجاح والأرباح.
سبتمبر 2021
هذه المادة كتبتها قبل 4 سنوات عن الدكتور أحمد التجاني المنصوري الذي تم تعيينه اليوم وزيراً للثروة الحيوانية والسمكية
Source
الوطن من مكانٍ آخر.. تجربة المنصوري المُلهمة عزمي عبد الرازق تزامنت لحظة دخولي …

Leave a Comment