[ad_1]
أحمد عثمان جبريل.. يكتب:
اعتذار المؤتمر الوطني.. ندم أم مراوغة؟
❝ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. ❞
— رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم في إعلاء مبدأ العدل والمساءلة على الجميع دون استثناء.
في لحظة بدت هادئة على السطح، خرج من جوف التنظيم العتيق صوت اعتذار.
لكن في قاع هذا الصوت كانت الريح تعوي، وكان السؤال، لا الإجابة، هو ما يملأ الأفق: لماذا الآن؟
1
في السادس من أكتوبر 2025، خرج الأمين السياسي لحزب المؤتمر الوطني، النعمان عبدالحليم، عبر شاشة “الجزيرة مباشر”، ليعلن ما وصفه بـ”اعتذار للشعب السوداني عن الأخطاء التي ارتُكبت خلال سنوات حكم الحزب”.
وقد يبدو المشهد للوهلة الأولى علامة نضج أو صحوة متأخرة، لكنه في عمقه السياسي والتاريخي، ليس اعتذارًا بريئًا، ولا لحظة نقد ذاتي فجائية، بل خطوة محسوبة بعناية.
هي في جوهرها: “إقرار رسمي بالذنب، موثّق، وعلني.. وبالتالي مُدان.”
2
هذا الاعتذار، من حيث موقعه وتوقيته وصيغته، ليس مجرد كلام عابر.
النعمان لم يخرج بصفته مفكّرًا حرًا، أو مراقبًا خارجيًا، بل بصفته أمينًا سياسيًا لحزب المؤتمر الوطني، وقياديًا في الحركة الإسلامية التي حكمت السودان لثلاثة عقود، والتي لا تزال تحيطها حتى اليوم شبكات الدعم والظل والقرار.
لذلك، ما قاله لا يُعد رأيًا عابرًا، بل “وثيقة حزبية مُعلنة” تحمل وزن الإقرار والاعتراف، وتثبت بالضرورة أن ما ارتُكب في تلك الحقبة لم يكن وهمًا، ولا مبالغة من الخصوم، بل حقيقة يُقِرُّ بها من داخل بيتها.
3
ومع ذلك، فإن مفارقة اللحظة لا تكمن في الاعتذار ذاته، بل في غياب وجوه الاعتذار الحقيقي.
فالسؤال الذي يسبق أي عفو هو: “أين هم الذين يجب أن يعتذروا؟”
أين عمر البشير؟ أين علي عثمان؟ نافع؟ علي كرتي؟ صلاح قوش؟ أحمد هارون؟ أين بقية من صاغوا الانقلاب، وشقّوا صدر الديمقراطية بخنجر التنظيم، وأداروا البلاد كضيعة خاصة لعقود؟
من المؤكد أنهم فوضوا النعمان كأمين سياسي، لكنهم تركوه ــ بدهاء معتادي السلطة ــ يتلقى الغضب العام نيابة عنهم.
إنها محاولة مكشوفة لتمرير الاعتذار عبر “وجه من الصفوف الخلفية”، لا كما تلطّخت أيدي “كبار المشروع”.
4
لكن الاعتذار، في أي سياق، لا يُقاس بمن قاله فقط، بل متى قيل، ولماذا قيل، وما الذي سيترتب عليه.
والسؤال الجوهري هنا هو: لماذا الآن؟
لماذا في هذه اللحظة التي يقف فيها السودان على مفترق اللا دولة واللا استقرار، وفي ذروة تفتت المؤتمر الوطني، وفي ظل تسوية سياسية يُجري طبخها على نار هادئة من قبل الرباعية الدولية، وصعود النزعات العسكرية، يعود الصوت الإسلامي ليقول: “نحن آسفون، فلنعبر معًا إلى المستقبل؟”
إنه ليس اعتذارًا، بل تكتيك.
ليس ندمًا، بل مناورة.
5
ولكي نضع التاريخ في حجمه الحقيقي، فالمسألة لا تتعلق بثلاثة عقود من حكم الإنقاذ فقط، بل بما يقارب أربعة عقود من العمل التنظيمي والتخطيط السري والتمكين الممنهج.
بدءًا من لحظة التآمر على الديمقراطية، وانتهاءً بلحظة ما بعد السقوط، حين ظلت الحركة الإسلامية تشكّل “الرافعة السياسية والدينية والعسكرية للبرهان” تسانده في صمت، وتمهّد له من خلف الكواليس.
وبالتالي، فإن الاعتذار الذي بدا كأنه نهاية، ليس إلا فصلًا جديدًا من فصول إعادة التموقع السياسي.
6
حتى في لغته، حمل الاعتذار خللًا جوهريًا.
حين يُقال “أخطاء ارتُكبت”، وكأننا بصدد تقرير إداري عن مخالفات صغيرة، لا عن دولة سُرقت، وموارد نُهبت، وحروب أُضرمت، ودماء سُفكت، وناس جُوِّعوا، وهُجِّروا، وقُمِعوا، وسُحِلوا في الساحات.
هذا ليس “خطأ”.. هذا مشروع قمع وهيمنة وتدمير يجب أن يُسمّى بأسمائه: “جريمة دولة.”
7
وإذا كانت المراجعة الحقيقية تبدأ من تسمية الأشياء بأسمائها، فإن أول شروط الاعتذار النزيه هو أن يكون: ثمنًا لا خطابًا.
أن يصحبه فتح للملفات، كشف للأسماء، استرجاع للأموال المنهوبة، وتقديم كل متورط إلى العدالة الانتقالية، لا الاكتفاء بإطلاق بالونات كلامية عبر الفضائيات.
أما أن يتحوّل الاعتذار إلى مجرد جسّ نبض أو بطاقة دعوة للمصالحة، فهو أمر لا ينطلي على من خرجوا في ديسمبر يهتفون “تسقط بس”، وواجهوا الرصاص بصدورهم العارية.
8
الشعب السوداني، بكل جراحه ونبله، لا يريد انتقامًا، بل عدالة.
يريد أن يسمع الحقيقة كاملة، وأن تُفتح الأبواب الموصدة على خزائن السر والدم، وأن تُكتب نهاية عادلة لهذا الكابوس الممتد منذ 1989 حتى اليوم.
ومن لم يكن جزءًا من هذه النهايات، فليتحلّ بالشجاعة ليصمت، لا أن يُكلّف نفسه بحمل خطايا غيره، فيغدو كبش فداء جديد، أو واجهة لوجه لم يتغيّر.
9
ما قُدِّم إذًا ليس اعتذارًا، بل وثيقة إدانة.
نصٌّ مكتوب بالصوت، مختوم بدموع الصادقين، ودماء الذين ما زالوا ينتظرون محاكمة عادلة لجلاديهم.
ومن هنا، فإن واجب اللحظة لا يقتصر على تحليل الاعتذار، بل تحويله إلى وثيقة قضائية، تُضاف إلى ملف الجرائم السياسية التي ارتكبها نظام الإنقاذ، وحزبه، وتنظيمه، وشبكاته، ومن لا يزالون إلى اليوم يحكمون السودان من خلف الستار.
رسالة مفتوحة:
إلى النعمان عبدالحليم:
إن كنت صادقًا، فلا تحمل وحدك وزر بيتٍ بُني من الظلم، ولا تكن لسانًا لمن ما زالوا صامتين هناك، حيث تُصنع المؤامرات الجديدة.
وإن أردت حقًا أن تعتذر، فكن أول من يُطالب بمحاكمة من كانوا رؤوس هذا البلاء.
وإلى الشعب السوداني:
لا تصدقوا الكلمات حتى ترافقها أفعال.
فقد قال دوستويفسكي:
“الكلمة التي لا تُتابعها خطوة، تذوب في الهواء كما يذوب الدخان في الريح.”
وقد سئمت بلادكم الدخان، وتستحق أن ترى النار تُطفأ، لا تُخبّأ.. إنا لله ياخ… الله غالب.
#شبكة_رصد_السودان
[ad_2]
Source


