أحمد عثمان جبريل .. يكتب:
“كيكل” .. قاتل يُعاد تدويره (2-2)
❝الذاكرة هي سلاح المظلوم في مواجهة الطغيان.❞
قالها الطيب صالح يومًا، ولم يكن يعلم أن في بلاده سيأتي زمنٌ يُجرَّد فيه المظلوم حتى من هذا السلاح.. لا لأن الذاكرة خذلته، بل لأن القتلة قرروا أن يكتبوها هم، بأيديهم، ويملوها علينا كأنها الحقيقة.. في هذا الزمن المقلوب، لا يُحاكَم المجرم، بل يُعاد تقديمه.، يُروَّج له، ويُصفق له على المنصات.
في السودان، لم تعد الكارثة في عدد القتلى، بل في عدد المرّات التي يُقتل فيها الضحايا: مرة بالرصاص، ومرة بالصمت، ومرة ثالثة حين يُلمّع القاتل ويُعاد تدويره كبطل قومي.
في بلد صار فيه النسيان سياسة، والدم بضاعة، والجريمة وجهًا قابلاً للتزيين، لا يعود القاتل متخفياً أو هارباً، بل يعود متأهلاً لدور البطولة. يعود كيكل، لا بوصفه مجرد فرد في آلة القتل، بل كرمز لعصرٍ انقلبت فيه الموازين، وصار القاتل يُعاد تدويره، يُجمَّل، ويُقدَّم للناس بصفته رجل الدولة الجديد، المواطن النموذجي، والمحاضر في الوطنية.
لكن (حكاية كيكل) ليست مجرد واقعة فردية يمكن تجاوزها.. إنها فضيحة أخلاقية، ومِرآة صافية لما جرى، وما يُراد له أن يستمر في السودان: فالقتل لا يُدان، بل يُكافأ.. و المجازر تُنسى سريعاً، بل تُستخدم كأوراق ضغط في البازارات السياسية.. والشعوب إذا نامت ذاكرتها، تسلّق القتلة أعمدة الشرف.
فمنذ اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة أواخر عام 2023، والبلاد شهدت واحدة من أوسع المجازر الممنهجة في تاريخها المعاصر.. لم تكن الكارثة بحاجة إلى روايات. الوقائع كانت أبلغ: “من مدني إلى طيبة، من الكاملين إلى شرق الجزيرة” قُتِل الناس في بيوتهم، اغتُصبت النساء في خدورهن، وحتى بين الاشجار.. نُهبت الأسواق، وشُرّد الآلاف. وكانت الكاميرا هناك، تبثّ المشاهد على الهواء، وكأنّ الخراب صار نشرة يومية.
وسط هذه الفوضى، ظهر اسم “كيكل”.. لم يكن ظلاً بين الظلال. كان واضحًا، صاخبًا، مبتسمًا في مقاطع الفيديو، يصرخ بأوامره، ويتنقل بين الأحياء ومعه رجاله، ينفّذون الاجتياح وكأنهم في نزهة دموية.. السكان المحليون لم يروه كعنصر عابر، بل كقائد ميداني معروف، فاعل في كل شيء: “في القتل، في النهب، في الإذلال” وقد رُبط اسمه بانتهاكات موثّقة، بعضها لا يزال محفورًا في ذاكرة القرى والمقابر.
ثم، فجأة، اختفى.. فحين بدأ ميزان القوى يتبدل، عاد الرجل إلى الساحة، لا كفارٍّ من المحاسبة، بل كـ”منشقٍّ عن الدع*م الس*ريع”، يخرج من عباءتهم ليلبس بزة الجيش، ويُمنح رتبة، ويظهر على المنصات على صدره النياشين، وعلى كتفه الرتب.. لا ليعتذر، لا ليحاكم، بل ليتحدث.. ليهاجم المدنيين. ليصفي حساباته.. ليقدّم نفسه، من جديد، تحت راية أخرى.. فعل ذلك عشرات المرات، وفي كل مره يصفق له جوقة الإعلام المأجور من صحفيي الغفلة.
حرى بنا وسط هذه الفوضى ان نسأل الأسئلة، وهي ليست فقط عن كيكل، بل عن المنظومة التي جعلته ممكنًا:” من غيّر بزته؟ من رفع رتبته؟ من سوّق له؟ من قرر أن الجريمة ليست عاراً بل أداة قابلة للاستثمار؟ من كتب له سيناريو العودة؟ ولماذا يرفع صوته الآن؟ في هذا التوقيت بالذات، تزامنًا مع الضغط الدولي لوقف الحرب، وتصاعد الغضب الشعبي من تردي الأوضاع الصحية والإنسانية، وصراع الخفاء الذي خرج للعلن بين البرهان والإسلاميين؟”.
إن توقيت تلميع كيكل ليس اعتباطيًا.. الرجل لا يعود منفردًا، بل ضمن حملةٍ إعلامية محسوبة، تقودها أذرع تعيد تدوير الأدوات القديمة بوجوه جديدة.. منابر وصفحات ومؤثرون يحاولون تحويل مجرمي الأمس إلى رجال مرحلة، وتقديمهم كعناوين للاستقرار والانتصار.
ولكن ما الذي نفعله بذاكرة المجزرة؟ .. هل بحثوا هذا السؤال؟.
في كاب الجداد، بحسب شهادات وثّقتها “الجزيرة نت” دخل عناصر الدع*م الس*ريع على دراجاتهم، اقتحموا السوق، نهبوا المتاجر، اعتقلوا تسعة من الشبان، وأطلقوا النار على أحدهم لمجرد أن هاتفه رنّ، وتركوه جثةً هامدة في فناء المسجد.. بعدها حضرت لاحقاً عربات يقودها كيكل، قيدوا من تبقّى، وواصلوا إذلال الناس. في قرية السريحة،. وقع ما وصفه الأهالي بـ”مجزرة جماعية”. 124 شهيداً، أكثر من 150 معتقلاً، وقرى بأكملها جرى تطهيرها، واغتصاب نساء، وتدمير بيوت، وتهجير عائلات لا تزال حتى اليوم بلا مأوى.. هذه جرائم لا تنسى، ولا تسقط بالتقادم، ولا يُعقل أن يُمسح اسم مرتكبيها ببيان سياسي أو مقطع ترويجي.
ثم يأتي من يقول لنا: كيكل انضم إلى الجيش. ويقاتل الجنجويد.. كأن الخيانة للدع*م الس*ريع تمنح البراءة من دماء الأبرياء. وكأن التحوّل في الولاء يُسقط الجريمة، ويمنح القاتل شهادة حسن سير وسلوك.
وهنا لا بد من القول:” من جعل كيكل ممكنًا لم يكن فقط المؤسسة العسكرية أو الأجهزة الأمنية، بل أيضًا جوقة الإعلاميون والصحفيون ومن يسمّون أنفسهم بمثقفي وناشطي المؤتمرالوطني، ممن سخّروا صفحاتهم عبر المنصات لطمس الحقيقة، وراحوا يسخرون من كل من يذكّر بالعدالة، ويهاجمون من يقول: هذا قاتل، يجب أن يُحاسب.
لكن، وحتى وسط هذا السقوط الجماعي، لا بد من الاعتراف بوجود أصوات رفضت التماهي مع موجة التبييض، حتى من داخل معسكر الحرب ذاته.. تلك الأصوات، وإن كانت نادرة، إلا أنها تمثل ضوءًا في عتمة هذا الانحدار..نحفظ لها موقفها الأخلاقي.
إن بقاء كيكل في المشهد، لا كمتهم بل كوجهٍ رسمي، ليس مجرد سقطة أخلاقية.. إنه وصمة على جبيننا جميعًا. لأن الجريمة التي لا تُحاسب لا تُنسى فقط، بل تتكرر. وإن لم نقل اليوم: “هذا قاتل”، فغدًا سيحكم أمثاله. وسنراهم وزراء وقادة، بينما تُدفن الحقيقة تحت أقدامهم.
هذه ليست معركة عبارات ولا سباق إدانات. هذه معركة ضمير.. إن لم تكن كلمة الحق هي أول سطر في مشروع العدالة، فإن السودان سيُهزم، لا فقط في الحرب، بل في أخلاقه وذاكرته.
قالوا لنا كذبا إن كيكل تخلّى عن القتل.. ويقاتل في دارفور الجنجويد لتحرير أهلها لا قتلهم.. لكنهم لم يسألوا: هل تخلّى القتل عن كيكل؟
قالوا إنه انضم لمنظومة الجيش. لكنهم لم يجرؤوا أن يسألوا: وماذا عن الضحايا؟ عن النساء اللواتي اغتُصبن؟ عن الشبان الذين قُتلوا؟ عن القرى التي أُحرقت؟ عن الطفلة التي انتُزعت من حضن أمها تحت تهديد السلاح؟
من يُعيد لهؤلاء العدالة؟ من يعوّضهم عن سنوات الخوف، والذل، والتشريد؟
إن لم تكن العدالة هي ما نحارب لأجله، فما الذي تبقّى لنا؟ ..
نكتب اليوم عن كيكل، لأنه نموذج.. لا لأنه الوحيد، بل لأنه الصارخ.. ولأن تمريره بهذا الشكل يعني فتح الباب لعشرات، لمئات، من أمثاله.
نكتب.. لنذكّر أن في هذه البلاد ذاكرة تقاوم، وأن صوت الضحية لن يُدفن مهما تعددت الألقاب والرتب والبيانات.
نكتب.. لأننا لا نريد أن نستيقظ ذات يوم ونرى كيكل وزيراً، ويجبر الطلاب على الوقوف احترامًا له في نشيد الصباح.
كيكل ليس شخصاً.. كيكل هو سؤال: من يُحكم السودان؟ الضحايا، أم القتلة؟
وكل من يصمت، أو يجمّل، أو يبرر، إنما يشارك في جريمة إعادة تدوير الدم.
ولن تكون هذه الحرب آخر ما يُهزم فيه هذا الوطن، إن لم نسمّ الأشياء بأسمائها..
فهل ننتظر كيكلًا جديدًا.. أم نغلق الباب هنا، عند كلمة الحق؟ ..إنا لله ياخ ..الله غالب.
#شبكة_رصد_السودان
Source