#آه_منك_يا_زمن_النزوح
كنتُ بالأمس في وداع بعض الأهل بمحطة رمسيس، ذهبتُ لمتابعة تفاصيل رحلة سفرهم من القاهرة إلى السودان، تحديداً إلى الجزيرة، عبر مشروع العودة الطوعية، وقطاراته المندفعة كما النيل هذه الأيام. وقفتُ أرقب المشهد من الرصيف الثامن: كيف يتجمع الناس؟ ومن أي حدبٍ ينسلون، ماذا يحملون معهم؟ كانت الأسر السودانية تتحلّق حول مقاعد الانتظار، تحتضن ما تيسّر من شوق، وما لا يمكن أن يُختزل في حقائب، شاي، معجنات، أجهزة كهربائية، أواني منزلية، أدوية سكري وضغط ومضادات حيوية، ملابس العيد، وهلم جرّا، على قول الإمام الراحل.
لم تكن هذه الرحلة كسابقاتها؛ بدا وكأن المشروع قد تعلّم من عثراته الأولى، فتلافَت الرحلة الثانية والعشرون ما كان يُؤخذ على التجربة في بداياتها. الركاب اعتلوا مقاعدهم بتلقائية: لا صخب، لا ارتباك، لا فوضى. كل شيء في توقيته تماماً. الوجوه مألوفة، وجوه السودان الذي لم يغادرنا يوماً. كل شيء بدا منظماً وجميلاً، حتى “وجبة السفر” المجانية.
هذه المرة، خُصص القطار بالكامل لأولئك الذين سجلوا عبر الأرقام المعتمدة؛ لم يكن ثمة تمييز. الرضا يكسو الوجوه، يلمع في العيون التي مزجت دمعة الوداع بابتسامة الأمل. كانت لحظات ثقيلة تختنق فيها الحيرة بالشوق، حتى أيقنتُ أن من لم يحجز مكانه اليوم، فقد حجزه في قلبه للرحلة القادمة؛ فالأشياء تولد من رغبة.
غير أن ما أثار اهتمامي حقاً هو الفريق الذي يحرس هذه التجربة بجهده وصدقه. شباب في عمر الزهور يحترقون كالشموع، يحملون الحقائب عن النساء، يتوكأ عليهم الشيوخ، ثم ينهضون سريعاً لحل أي إشكال طارئ. على رأس هذا الفريق كانت م. أميمة عبد الله، مديرة المشروع، امرأة تمشي بين الناس بسماحة نادرة، توزع حضورها كما يوزع المطر بركته. هي ليست مجرد مسؤولة ميدانية، وإنما أحد أسرار هذا النجاح، وإن لم تُطق أن يقول لها أحد ذلك.
تأكد لي أن مشروع العودة الطوعية انتزع للسودانيين النازحين كرامتهم، تلك التي مزقها الجنجويد ببنادقهم الطائشة الباطشة. وقد ربط الناس مرة أخرى باللحمة الوطنية، وأعاد للسواد الأعظم ثقتهم في المؤسسة العسكرية، لا كآلة حرب فقط، وإنما كيدٍ حانية تضمّد الجراح، تعين الناس على ستر حالهم، وتتحرك في أكثر من جبهة؛ منذ بداية الحرب تقريباً لم تقدم الدولة مساعدة للأسر بهذا الحجم، وليس مستغرباً أن تقوم المنظومة إنابة عن قواتنا المسلحة بذلك، وهو جهد يستحق التشجيع، بكل تأكيد.
ولولا مبادرة منظومة الصناعات الدفاعية وتحركها في الوقت المناسب، لكان المشهد مختلفاً ومأسوياً: طوابير تكابد أمام ثكنات حرس الحدود، وضحايا لعصابات الصحراء، أو تحت وطأة المطاردات المهينة، واستنزاف المدخرات الشحيحة، بما كان سيخلّف ذاكرة سوداوية عن مصر، وهي الأقرب إلينا في كل شيء. لكن هذه القطارات المجانية الآمنة قتلت المعاناة في مهدها، وأطفأت شرارة مافيا الأزمات. بل إنها – وتلك حقيقة مُسلَّم بها – هزمت مشروع الحرب نفسه، ذلك المشروع الذي عمل على إفراغ المدن والقرى من سكانها، وأراد أن يقتل الأرض، وأن يدفن المدارس والمصانع تحت ركام النسيان. فكل شيء مُهمل يموت؛ ودون بشر لا تنبض الحياة. تخيّل كيف كانت الأرض قبل هبوط آدم وحواء، أو بعد الطوفان؟
ما رسخ في ظني – وربما في أذهان كثير من المنصفين – أن مشروع العودة الطوعية ليس مجرد قطارات تتحرك عجلاتها ببطء، وإنما هو أهم مشروع بعد الحرب. أو بالأحرى: عليه تنهض فكرة الإعمار. فالإنسان محور التنمية، وهو القادر على أن يعمل ويكتب قصة نجاح جديدة، ليست شخصية بكل تأكيد، وإنما قصة ملهمة في سفر التكوين الأسمر. قصة تتجاوز رسائل الطيب صالح إلى إيلين: “آه منك يا زمن النزوح”. لا أعرف لماذا تذكرت تلك الرسائل، وكيف تمنّت إيلين أن يجد نصفها الآخر الجميل أهله كما هم، لم يتغيروا، والأهم من ذلك: أن لا يكون قد تغيّر نحوهم.
عزمي عبد الرازق
Source
#آه_منك_يا_زمن_النزوح كنتُ بالأمس في وداع بعض الأهل بمحطة رمسيس، ذهبتُ لمتابعة ت…

Leave a Comment