الجمال من سقراط إلى نيتشه إلى وسائل التواصل الاجتماعي
رحلة في المعرفة والمعايير الثقافية
“لا تأتي العطالة إلا بعد العمل” – نيتشه، معلّم وملهم
✒️بقلم: أحمد الطيب العوض
مدخل: الجمال والمعرفة
الجمال، منذ فجر الفلسفة الغربية، لم يكن مجرد مسألة ذوق أو إحساس، بل انعكاس لعلاقة الإنسان بالمعرفة، والأخلاق، والمجتمع.
رحلة الجمال عبر الزمن تكشف أكثر من اختلافات في الذوق، فهي تكشف تغيّر مصادر ما نعتبره “معرفة قطعية”.
الجمال في أثينا الهيلينية
في البداية، كان يُنظر إلى الجمال كمعرفة يمكن إدراكها عبر الشكل الفيزيائي والهيئة الظاهرية للأشياء.
الشكل المتناسق والجسد المثالي كانا مرآة للانسجام، وكانت أثينا مولعة بهذا النسق الجمالي، رغم الانقسام الطبقي والفئات الاجتماعية.
مع سقراط، أعيد تعريف الجمال من مجرد هيئة محسوسة إلى معيار أخلاقي. الجمال الحقيقي، بالنسبة له، مرتبط بالخير والحق والسمو الأخلاقي، فهو “يسمو الإنسان بذاته، والقبح هو الإنسان في طور الانحطاط”.
القبح هنا ليس مجرد شكل، بل انعكاس لانحطاط الإنسان الداخلي.
تجربة سقراط القصوى، حين اضطر إلى تجرع كأس السم، كانت ثمرة ارتباطه العميق بفكرة أن الجمال مرتبط بالفضيلة، وهو ما رفضته طبقة النبلاء.
نيتشه وفسيولوجيا الجمال
مع نيتشه، في عصر ما بعد الحداثة، يبدأ الجمال بالانفكاك من العقل الكلاسيكي والمعايير الأخلاقية.
يصبح الجمال فسيولوجيًا بامتياز، مرتبطًا بالقوة، والصحة، والفعلية الجسدية والروحية، وإرادة الفرد.
لم تعد هناك أجوبة نهائية أو معايير ثابتة، بل قيم فردية تتغير حسب الإمكانات الشخصية والقدرة على التأثير.
الجمال في عصر وسائل التواصل الاجتماعي
اليوم، وبعد أن أصبح العالم افتراضيًا ومؤثرًا بالرقمنة، لم تعد الفلسفة أو المنطق أو حتى الأخلاق هي الحكم النهائي للجمال.
الجمال يُقاس بعدد الإعجابات، والمشاهدات، والمشاركات. الفيديوهات، الصور، الترندات، وحتى “الرواج اللحظي” الاجتماعي، هي التي تحدد ما هو جميل.
هذا الجمال سريع الزوال، متغير باستمرار، ومتأثر بالتفاعل الجماهيري أكثر من أي معيار عقلاني أو أخلاقي.
ماذا يعني هذا التحول؟
رحلة الجمال من سقراط إلى نيتشه وصولًا إلى الرواج الرقمي تظهر أن الجمال ليس مجرد شكل نراه أو نحسه، بل انعكاس لمصادر المعرفة والسلطة في عصرنا، كما يشير “ميشيل فوكو”
في أثينا: العقل والمعرفة هما الحاكم.
في عصر نيتشه: القوة والإبداع الفردي هما المعيار.
اليوم: الجمهور، الرواج، وتأثير المنصات الرقمية هي التي تحدد الجمال.
فهم الجمال المعاصر يتطلب إذن فهم التحولات الاجتماعية، الثقافية، والتقنية التي تصنع هذه المعايير.
الجمال لم يعد مجرد قيمة جمالية، بل أصبح مرآة لما نعتبره مهمًا، مؤثرًا، أو محبوبًا في لحظة معينة، ليصبح جزءًا من خطابنا الثقافي والاجتماعي.
#مركز_مناظير_جديدة
Source