*عثمان فضل الله يكتب عن عرمان بين التجربة والفكرة:*
في لحظات الانقسام الكبرى، تفتقر الساحة السياسية عادةً إلى الصوت الواضح الذي يربط بين التجربة والفكرة، بين الماضي والحاضر. ياسر عرمان واحد من هؤلاء القلائل الذين صقلتهم التجارب، فخرج من دهاليز السياسة السودانية برؤية أوسع من حدود الاصطفاف الضيق. تجربته الطويلة لم تكن نزهة، بل سلسلة من المواجهات والانكسارات والحوارات، ما جعله أكثر التصاقاً بفكرة الوطن من التصاقه بالمناصب أو المكاسب.
قبيل انقلاب ٢٥ أكتوبر ،نظمنا ندوة في مركز آرتكل عن الترتيبات الأمنية، تحدث فيها عرمان بوضوح قائلا : لا يمكن للدولة أن تمضي بجيوش متعددة، ولابد من بناء جيش وطني قومي مهني واحد يحتكر القوة ويحترم ارادة الشعب لم يكن حدبثه ذاك في الندوة تلك مجرد شعار سياسي، بل استنتاجاً من تاريخ طويل من الحروب والصراعات عاشه الرجل واكتوى به السودانين؛ تاريخ يقول إن التعددية العسكرية لا تنتج سوى الانقسام والفوضى، وإن الطريق الوحيد لبناء دولة قابلة للحياة هو وجود جيش وطني مهني واحد، يحل مكان كل التشكيلات المسلحة، بما فيها الدعم السريع.
من يستمع إلى عرمان في مثل هذه المحافل، يدرك أن حديثه ليس ارتجالاً. الرجل يراكم خبرة سياسية وثقافية جعلت منه شاهداً على مراحل السودان المتقلبة، ومشاركاً في جزء من معاركها، ودارساً عميقاً لخيباتها. لذلك حين يربط بين السياسة والأمن، أو بين العدالة والسلام، فإنه لا يفعل ذلك بصفته محللاً بعيداً، بل كفاعل جرب كلفة الحرب وخبر الانقسام عن قرب.
في مقاله الأخير، كشف ياسر عرمان عن تشخيصٍ حاد للوضع: حكومتان لا تغطيان جسد الوطن. هذه العبارة وحدها تختصر مأزق اللحظة. فالدولة لا تُبنى بأجزاء متنازعة، ولا الشرعية تُكتسب عبر “جوكيات وسماسرة” أو نزاعات قبلية، بل بمشروع وطني شامل قادر على إعادة توحيد الريف والمدينة، وعلى استعادة السودان ككيان يتسع للجميع.
هنا تتجلى قيمة ما يطرحه عرمان: أن القضية ليست في من يحكم اليوم أو غداً، بل في كيفية بناء أرضية مشتركة تعيد تعريف الدولة السودانية على أسس الحرية والمواطنة والعدالة. وهو منظور لا يستند إلى العاطفة وحدها، بل إلى حصيلة عقود من التجربة في العمل السياسي، وفي الاقتراب من قضايا الحرب والسلام، وفي التفاعل مع الفاعلين المحليين والدوليين.
اللافت في مسيرة ياسر عرمان أن خطابه ظل يتطور مع الأحداث دون أن يتنازل عن جوهره: السودان لا يمكن أن يعيش منقسمًا بين جيوش وسلطات متناحرة، ولا يمكن أن يستمر في الدوران في فلك الصراعات الإثنية والجغرافية. إنما يحتاج إلى فكرة أكبر من الجميع، فكرة تجعل من الوطن سقفاً يتجاوز الأفراد والتيارات.
بهذا المعنى، لا يُقرأ صوت عرمان كمدحٍ أو ذم، بل كجزء من محاولة متواصلة للبحث عن وطنٍ ممكن، وطنٍ لا يشبه حكومتي اليوم، بل يشبه تطلعات الناس الذين دفعوا أثمان الحرب والتمزق.
#اللهم_لا_ترفع_للكيزان_راية_ولا_تحقق_لهم_غاية_واجعلهم_للعالمين_عبرة_وآية
#حرب_الندامة
عثمان فضل الله
Source