أحمد عثمان جبريل.. يكتب:
“كيكل”.. جريمة بلا عقاب في وطن بلا ذاكرة(1)
❝ الأسوأ من الجريمة، هو التواطؤ على إنكارها.❞
— ألبر كامو
أي زمن هذا الذي يُرفع فيه القتلة على الأكتاف، وتُخنق فيه أصوات الضحايا في التراب؟
أي وطن هذا الذي يُمحى فيه الدم من الذاكرة، ويُصبغ بالذهب على يد الجلاد؟
ها هو “كيكل” يعود، لا خجولًا، لا معتذرًا، بل مزهواً بلحمه الذي تقاطر منه صدى المجازر، محمولًا على ضمير ميت، وإعلام مأجور، ونُخب خانعة.
ما يُرتكب اليوم ليس مجرد تزييف للتاريخ، بل جريمة أخلاقية كاملة الأركان: يُبرأ القاتل لأنه “منا”، وتُنسى الجريمة لأن التوقيت لا يناسب الرواية.
لكننا هنا، وسنقول ما يجب أن يُقال:
القاتل قاتل ولو حمل ألف راية.
والدم لا يُغفر بشعارات الكرامة إن سُفك على عتبات الصمت والخيانة.. والجريمة جريمة لا تسقط بالتقادم.. والمجرم مجرم ومكانه منصات العدالة.
❝أسوأ ما يحدث للناس الطيبين، هو أن يصدقوا أن كل شيء ممكن غفرانه ❞
– ألبر كامو
في هذا الزمن الأغبر، من تاريخ هذه الحرب العبثية، والتي تحولت فيها ذاكرة السودانيين بفعل فاعل، إلى ساحة معركة موازية، حيث أصبح الكذب مهارة رسمية تُمارَس باسم “المصلحة” واعيدت تشكيل صورة القاتل لا لتُخفي دمه، بل لتُسوِّقه على أنه ضحية مغفور لها، بينما يُلاحق من أدان القتل بأسئلته الأخلاقية، لاجترار صك إدانة على صمته، أو تأخره في النطق .. يحدث ذلك الآن، بلا مواربة، في المشهد السوداني، حيث تتكثف عبثية الحرب في لحظة واحدة:” لحظة تلميع المجرمين وتحقير من فضحوا الجريمة”.
ما يُثار حول المدعو كيكل ليس رأيًا سياسيًا ضمن تعددية الرؤى، بل هو امتحان أخلاقي لمجتمع بأسره، أُجبر على الموازنة القسرية بين الجلاد والضحية.. في تلك الموازنة، يُمنح القاتل صكاً للغفران لأنه ببساطة “من معسكرنا” وتُرفع صوره في المنصات مع شعارات “الكرامة” وكأن الكرامة تُبنى على المقابر الجماعية وصرخات المغتصبات.. أي عار هذا الذي نحاول أن نغلفه بعبارات الإنكار الوطني؟.
ورغم أن أكثر من يرفعون راية “العدالة” اليوم غارقون في التبرير، إلا أن من الإنصاف القول إن بعض الأصوات – حتى من داخل المعسكرات المتهمة بتأجيج هذه الحرب – وتسعيرها، تمسكت بموقف أخلاقي لا يُمكن تجاهله.. الناشط المعروف باسم (صرفة) ورغم انتمائه الظاهر إلى جوقة (البلابسة) التي أسهمت في تأجيج هذا الصراع، كان منذ البداية واضحًا في موقفه من كيكل، واعتبره مجرمًا تجب محاكمته لا تمجيده.. وقد وقف ضد محاولات تلميعه، وطالب – بشجاعة تُحسب له – بتقديمه للعدالة.. وبغض النظر عن اختلافنا الجوهري معه، إلا أن موقفه هذا يُحترم، خصوصًا حين يُقارن بمواقف صحفيي الغفلة من “أهل بنكك” الذين غاصوا في وحل التبرير حتى رقابهم، وباتوا يتقافزون من منصة لأخرى لإعادة إنتاج صورة القاتل كبطل.. وهم الذي كانوا أولى بهذا الموقف انحيازا لشرف المهنة وتاريخهم الذي “فلقونا” به.
لقد كتب ذات التاريخ الذي يتدثرون به، إن ما جرى في الجزيرة – وبيد كيكل وأشباهه – ليس فعلاً سياسياً يُدافع عنه، بل هو سقوط أخلاقي موثق.. سفك دماء بريئه.. قتل واصابات جسيمة، اغتصاب، وتشريد، سرقة و استباحة.. هذه أفعال لا تبررها راية، ولا يغسلها بيان، ولا يُقابلها إلا المحاكمة العادلة، أو الاعتراف العلني بالخزي . ومع ذلك، يخرج بعض الصحافيين – لا أقول الإعلاميين، فالصحافة موقف وليست وظيفة – يروّجون بأن من يرفض هذه الفظائع ويقول لا للحرب التي تجر وراؤها كل الموبقات.. هو من يجب أن يُحاكم شعبياً، لا من نفذها أو باركها أو قادها.. إنا لله ياخ أي عقول هذه.
اللافت في الأمر، أن أكثر من يتهم الآخرين بالصمت أو التواطؤ، هم أنفسهم من يُجيدون الرقص على جراح الناس وتزيين خطاب الكراهية. يتناسون أن خالد سلك – اتفقت معه أو إختلفت – لم يكن يومًا في صف الجريمة، بل عبّر بوضوح عن موقفه من الانتهاكات منذ اللحظة الأولى ولا يزال، سواء جاءت من قوات الدعم السريع أو من الجيش، بينما الطرف الآخر لا يزال يوزع المديح لقاتل، ثم يبحث عن “تأخر الإدانة” عند خصمه، كأنما الخطيئة الكبرى ليست في الجريمة نفسها، بل في التوقيت الذي تُذكر فيه.. ثم اضاف إليها بغباء يحسد عليه التهنئة وهو الذي جعل المجرم المهنىء رمزا للكرامة .. تأني إنا لله ياخ
ما هذا الشغف المرضي بمطاردة الناس عبر أرشيف مواقفهم، بينما أنتم ترفعون كيكل على الأكتاف؟ هل أنتم فعلاً عاجزون عن رؤية النفاق في هذا التناقض؟ وهل تظنون أن ذاكرة الناس بهذه الهشاشة، أن ينسوا ما حدث في طيبة وكركوج ومدني وبقية مدن الجزيرة لمجرد أن البطل الجديد في خطابكم عاد ويزعم أنه “يحارب الجنجويد”؟ منذ متى أصبح القضاء على الخصم السياسي بطاقة عبور إلى غفران الجرائم ضد المدنيين؟
ما يحدث الآن هو تواطؤ جماعي مع النسيان، ومسخ للضمير، وتحويل الجلاد إلى “أيقونة نضال” لمجرد أنه قاتل من الجانب الذي نؤيده. لكن الحرب لا تُطهِّر أحداً، ولا تنفي الجريمة عن صاحبها إن حمل السلاح باسم “المقاومة” أو “الكرامة” اي كان إسمها، حين تتحول المقاومة إلى تبرير للمجازر، فإننا لا نقاوم الطغيان بل نُعيد إنتاجه بوجه مختلف.
إن أي خطاب لا يبدأ بإدانة كيكل، ولا يصر على محاكمته العادلة، هو خطاب ساقط بكل قواميس اللغة، مهما تلحف بشعارات الثورة أو العدالة أو الحرية.. ووجود أمثال هذا الشخص في الصفوف الأمامية لأي معسكر سياسي، هو إدانة لا تمحى، وشاهد على سقوط مشروعه الأخلاقي، حتى وإن رُفعت لافتاته في كل منصة.
نحن لا نطلب من أحد أن يكون ملاكاً، ولا أن يصطف مع خصومه.. نطلب فقط شيئًا بسيطًا: أن نُسمي القاتل قاتلاً، لا بطلاً مغفورًا له..
وأن نكفّ عن المتاجرة بجرائم مكتملة الأدلة لنقايضها بسجالات حزبية رخيصة و سخيفة عن من أدان أولاً، و من قدّم التهنئة ومن لم يُقدمها ومن صمت لاحقاً.. والحق والحق نقول: أن بعض الصمت أرحم من تلميع الجريمة.
إنا لله ياخ..الله غالب
#شبكة_رصد_السودان
Source