الكاميرا الخفية
ضياء الدين بلال
كثير من موضوعات الأعمدة الصحفية نلتقطها من أفواه الأصدقاء، وأحياناً من أحاديث عابرة بين الناس. تعليق عفوي أو ملاحظة عابرة قد تخرج فكرة لعمود كامل.
في إحدى زياراتي لتركيا، حدثني صديق عن التجربة التركية في محاربة الفساد، تجربة مدهشة ومثيرة.
قبل سنوات حين كاد الفساد أن يفتك بتركيا، كانت نقطة الانطلاق من برنامج كاميرا خفية.
في ذلك الوقت لم يكن إنجاز أي معاملة في مؤسسات الدولة ممكناً من دون دفع الرشاوى.
إحدى القنوات التلفزيونية أطلقت برنامجاً للكاميرا الخفية تجاوز حدود الضحك والتسلية، ليصبح أداة للإصلاح المجتمعي.
كانت الفكرة: أن يذهب أحد الممثلين لإنجاز معاملة بسيطة في مكاتب الضرائب أو غيرها، ترافقه كاميرا خفية تسجل تفاصيل الحوار مع الموظف. وغالباً ما كان الحوار لا يخلو من اتفاق ضمني على رشوة تقدم تحت الطاولة.
كل خميس، وفي توقيت محدد، كان الأتراك يجلسون أمام شاشات التلفاز لمتابعة حصاد الكاميرا الخفية.
وكل موظف في الدولة كان يضع يده على قلبه خشية أن يكون قد وقع في الفخ، فينتهي مستقبله المهني والاجتماعي بلحظة عرضت فيها الكاميرا تفاصيل عملية مشبوهة قام بها.
نال البرنامج شهرة واسعة وأصبح الأكثر مشاهدة في القنوات التركية، وأسهم بفاعلية في الحد من الرشوة في مؤسسات الدولة.
صديق آخر مقيم في إثيوبيا حدّثني عن أساليب حكومتهم لمحاربة الفساد عبر مفوضية متخصصة ذات صلاحيات واسعة.
استخدمت المفوضية أدوات إعلامية متنوعة، من الدراما إلى الرسومات الكاريكاتيرية والشعارات المكثفة ذات القدرة التعبيرية العالية.
ركزت الحملات الدعائية على تنمية ثقافة مجتمعية مناهضة للفساد، بتعزيز قيم تجريم الاعتداء على المال العام واستقذار الفعل الفاسد، لتأتي بعد ذلك الآليات العقابية.
التجربة الإثيوبية تؤكد أن الفساد لا يحارب بالقوانين وحدها، فالقوانين هي المحطة الأخيرة.
أما إذا ظلت البيئة المجتمعية حاضنة للفساد فلن تجدي القوانين نفعاً.
المفوضية السودانية لمحاربة الفساد، المزمع قيامها، لا بد أن تولي اهتماماً خاصاً بموضوع إقرارات الذمة كوسيلة ناجعة، ولن تكون ذات قيمة ومصداقية ما لم تتحول إلى إقرارات علنية يطّلع عليها الجمهور وتُفتح أبواب الطعن في صحتها.
في الولايات المتحدة تعرض إقرارات الذمة لكبار المسؤولين على لجنة مختصة، ثم تُنشر على مواقع الإنترنت ليطلع عليها الناس.
أما التجربة الماليزية، فتُعد الأفضل في العالم الثالث. هناك وبفضل لجنة صارمة وإجراءات محكمة، لم يجد أحد الوزراء مخرجاً من ملاحقتها إلا بالانتحار، حين ألقى بنفسه من أعلى بناية شاهقة.
المفسدون أخطر من الأعداء المقاتلين، فالأعداء يواجهونك في العلن، بينما المفسدون ينخرون في الداخل، في بيئة صالحة لنشاط البكتيريا.
إذا لم تكن الحكومة السودانية جادة في محاربة الفساد، فإن الحديث عنه سيتحول إلى حالة فوضوية تطلق فيها الاتهامات بلا حيثيات ولا مستندات.
الفاسدون أنفسهم سيكونون الأحرص على إفساد مشروع مكافحة الفساد وإظهاره في صورة عبثية هازلة.
الفاسدون هم الأحرص على توسيع دائرة الشبهات وإحداث زحام يتيح لهم التخفي والهروب تحت غبار الفوضى.
Source