أحمد عثمان جبريل يكتب: الخرطوم موبوءة.. “الضنك” تفتك بالمرضى
❝ أسوأ الأوبئة ليست ما يفتك بالأجساد فقط، بل ما ينتشر حين يغيب الضمير. ❞
— ألبر كامو، الطاعون
في مدينة اختنقت بالحرب، وتيبّست شرايينها بالقصف، تسير الآن حمّى الضنك بخفة قاتلة، لا تُطلق رصاصًا، لكنها تقتل.
الخرطوم اليوم موبوءة، لا بالمرض وحده، بل بالإهمال، والغياب التام لمؤسسات الصحة والدولة، والعجز المتصاعد للمجتمع الدولي.
تفشّت الحمى في قلب العاصمة، حيث لم تعد هناك مستشفيات كافية، ولا أدوية، ولا أطباء في أمان.. الأطباء أنفسهم على سرير المرض، في البيوت الأسرة كلها مرضى ولا أحد يمارض أحد .. الجيران يتفقدون بعضهم البعض في الاحياء، التي تحولت إلى مستنقعات، تصعد رائحة الموت في صمت.
“بدأ الأمر برعشة، ثم دوخة، ثم نزيف.. ولم أجد أحدًا يفهم ما بي”، هكذا تروي إحدى المريضات في إحدى المراكز المؤقتة غرب الخرطوم.. الخرطوم العاصمة المثلة التي يحاصرها (الضنك) ضنك العيش وضنك فيروس الحمى .
إنها ليست حالة فردية، بل مشهد يومي صار مألوفًا في مدينة تمشي نحو هاوية الوباء بلا كوابح.. حمى الضنك، مرض فيروسي ينقله البعوض، يزدهر في البيئات الفقيرة والمكتظة والمفتقرة للمياه النظيفة — وكلها مواصفات تنطبق على الخرطوم بعد أكثر من عام من الحرب والنزوح وغياب الدولة.
فالتقارير دولية الصحية والإعلامية تنقل الوضع كما على الأرض تصرخ بذات صراخ المرضى محذرة ولكنها تحذيرات تتجاهلها الفوضى..
ففي تقرير نشرته وكالة (رويترز) خلال الأسبوع الماضي، ظهرت صور من مستشفيات العاصمة، تُظهر اكتظاظ المرضى تحت الناموسيات، ونقصًا حادًا في الكوادر والأدوية، في مشهد أقرب إلى سيناريوهات الكوارث الطبيعية.
ومن جهتها، وثّقت الجزيرة أوضاعًا مأساوية في بعض المرافق الطبية المتهالكة التي تُحاول الاستمرار رغم انعدام الإمدادات وتردي البيئة المحيطة، مما يجعل السيطرة على البعوض مستحيلة تقريبًا.
أما وزارة الصحة السودانية، فقد أصدرت تصريحات خجولة تتحدث عن “انتشار محدود”، بينما تؤكد المصادر الميدانية أن الوباء خارج عن السيطرة، وأن حالات الوفيات والإصابة تتضاعف دون تسجيل رسمي دقيق.
المستشفيات تنهار.. والناس تموت في منازلها
هذا هو الواقع بدون رتوش.. فبحسب مصادر طبية محلية، فإن العديد من المستشفيات القديمة والمراكز الصحية باتت عاجزة عن استقبال المرضى، إما بسبب الاكتظاظ، أو تضرر مرافقها من القصف، أو إصابة الطواقم الطبية أنفسهم بالعدوى.
في الوقت ذاته، لم تُطلق أي حملة مكافحة فعالة للبعوض، ولم تُوزع ناموسيات واقية، ولا توجد شبكات صرف صحية تعمل كما يجب.
المدينة موبوءة من كل جهة: البعوض، المرض، الانقطاع، الغياب.
فمن ينجو من الحرب.. لا ينجو من الحمى
هذا هو الواقع .. فالمدهش في المشهد أن الموتى لا يُعدّون بالسلاح فقط، بل بالفيروس.
من ينجو من القصف، قد لا ينجو من لسعة بعوضة.
أطفال يئنّون تحت الحمى في مخيمات دون ظل، نساء يجهشن بالبكاء في غرف إسمنتية لا يدخلها الهواء، وأطباء مرهقون يخشون أن يقعوا هم أنفسهم ضحايا في نوباتهم الليلية.
الخرطوم اليوم لا تعاني من “تفشي صحي” فحسب، بل من كارثة إنسانية لم تُعلَن رسميًا بعد، ربما لأنها ليست من النوع الذي يصنع العناوين النارية أو بيانات الإدانة.. ليس وباءً فقط.. بل اختبار أخلاقي
في المعجم الطبي، كلمة “موبوءة” تعني مدينة تفشى فيها المرض.. لكن في السياق السوداني، المعنى أعمق:”الخرطوم موبوءة بالخذلان، بالتجاهل، بتفكك الدولة، وبتهافت العالم على ما هو أكثر صخبًا وأقل وجعًا”.
“الضنك يفتك بالمرضى” — هذه ليست جملة إنشائية، بل تقرير واقعي من قلب مدينة تُذبح في صمت.
ما يحدث في الخرطوم الآن ليس أزمة صحية فقط، بل اختبار أخلاقي للداخل والخارج:”هل من أحد يرى؟”.. هل من أحد يُدرك أن المرض حين لا يُعالج، يتحول إلى سياسة قتل غير معلن؟.
الخرطوم لا تنتظر دواءً فقط، بل لفتة ضمير.
لأن من يترك المدن تموت بالوباء بعد أن خربها بالحرب، ليس قاتلًا فقط.. بل شريك في جريمة لا تسقط بالتقادم.
إنا لله ياخ..الله غالب.
#شبكة_رصد_السودان
Source