من قريش إلى وول ستريت:
جدلية السيد والعبد والمساواة كأعمق أسئلة الوجود
✒️الاستاذ: آصف فيصل
منذ أن خطا الإنسان أولى خطواته على مسرح التاريخ، وهو يتأرجح بين قطبين متناقضين: قطب الامتياز والتفاضل، وقطب المساواة والعدل. على هذا التوتر قامت حضارات وسقطت، وبه اندلعت ثورات وانطفأت، وفيه تتجلى مأساة الإنسان كما يتجلى سرّ نجاته.
حين بعث الله محمدًا ﷺ من بطحاء مكة، لم تكن قريش تُنكر نسبه، ولا أمانته، ولا حكمته؛ بل كانت تراه أهلًا للسيادة بينهم. لكن الصاعقة لم تكن في شخصه، وإنما في الرسالة التي جاء بها: رسالة تُسوّي بين السيد والعبد، وتضع الغني والفقير في صفٍ واحد، وتُعلن أن القيمة لا تُقاس بالنسب ولا بالمال، وإنما بالتقوى والضمير. لقد كان هذا نسفًا للهرم الاجتماعي الذي اعتادت قريش أن تعتليه، وإعلانًا لثورة على البنية الطبقية التي شكّلت جوهر الزهو الجاهلي.
وهذه الفكرة — المساواة — ليست استثناءً في تاريخ الصراع البشري، بل هي ذاتها التي قاومتها كل الإمبراطوريات وارتجفت أمامها كل طبقة متسلطة. ومن هنا، يتقاطع صوت الإسلام مع صدى الفلسفات الإنسانية الكبرى؛ فقد لمح أفلاطون في “الجمهورية” إلى مدينة فاضلة لا تُقاس قيمة الفرد فيها بمولده بل بدوره في الجماعة. وصاغ أرسطو العدالة بوصفها “المساواة بين المتساوين”، ورأى أن انحرافها يولّد الطغيان. وفي العصر الحديث، صرخ روسو بأن “العقد الاجتماعي” لا يكتمل إلا بإلغاء كل امتياز لا يستند إلى الإرادة العامة، بينما أسّس كانط لمبدأ كوني يطالب بأن يُعامل الإنسان دومًا كغاية لا كوسيلة. أما هيغل، فقد جعل من صراع السيد والعبد ديناميكية جوهرية في مسيرة التاريخ نحو الاعتراف المتبادل. حتى نيتشه، في تمرده، هاجم أقنعة الأخلاق الزائفة التي تخفي إرادة التسلط. وفي التراث العربي الإسلامي، رفع المعتزلة العدل إلى مقام الأصل العقدي، ورأى الفارابي وابن رشد أن العقل المشترك هو ما يجعل البشر متساوين بالقوة، فيما كشف الكواكبي في “طبائع الاستبداد” أن أصل الطغيان هو نفي المساواة واحتكار الامتياز. هذه الأصوات، رغم اختلاف العصور والمناهج، تتلاقى عند نقطة واحدة: أن المساواة ليست ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة وجودية تحفظ للإنسان معناه ضد التوحش الطبقي.
حين قال محمد ﷺ: “الناس سواسية كأسنان المشط”، كان يضع حجر الأساس لفلسفة مساواتية سبقت روسو حين قال: “وُلد الإنسان حرًا، لكنه في كل مكان يُسلسل بالأغلال”، وسبقت ماركس حين صرخ: “يا عمال العالم، اتحدوا!”. فرفض قريش لمحمد لم يكن رفضًا لشخصه، بل للفكرة ذاتها: فكرة المساواة. إنه الوجه العربي القديم لذات الرفض الذي أبدته الأرستقراطيات الأوروبية لكل مشروع يُهدّد امتيازاتها؛ فقد قاوم الإقطاع دعوات التنوير، وقاومت البرجوازية الناشئة طموحات الاشتراكيين، وقاوم الرأسماليون لاحقًا كل محاولة للاقتراب من العدالة في توزيع الثروة.
لكن الفرق الجوهري هو أن الإسلام لم يطرح المساواة بوصفها مشروعًا دنيويًا مشروطًا، بل بوصفها قدرًا إنسانيًا ومصيرًا روحيًا. ففي الإسلام، يقف بلال الحبشي جنبًا إلى جنب مع أبي بكر القرشي على صعيد واحد، لا يعلو أحدهما على الآخر إلا بالتقوى. وهو لا يكتفي بتسوية البشر في الأرض، بل يحررهم من وهم الامتياز أصلًا أمام الله، حيث لا ينفع نسبٌ ولا جاهٌ ولا مالٌ إلا العمل الصالح.
وحين ارتجفت قريش من مساواة العبد بسيده، ارتجفت أوروبا بعد قرون من مساواة “العامة” بالنبلاء. وحين ثارت باريس على الباستيل، كان المشهد قريبًا في روحه من ثورة المستضعفين في مكة. وحين دعا ماركس إلى إلغاء الملكية الخاصة، كان يحاول — بطريقته المادية الصارمة — أن يحقق بعض ما أنجزه الإسلام روحيًا واجتماعيًا حين أمر بالزكاة، وحضّ على الإنفاق، وحرّم الربا.
لكن البشرية، في كل مرة، تقف عند الحافة وتتراجع. تعرف طريق العدالة، لكنها ترتجف كلما اقتربت منه. وما العالم الحديث — رغم شعاراته عن الحرية والمساواة والإخاء — إلا نسخة أكثر تعقيدًا من نظام قريش: بورصات وأسواق وأسوار مالية تُعيد إنتاج الامتياز في صور جديدة، وتكرّس سادةً وعبيدًا بثياب مختلفة.
لقد كان رفض قريش لمحمد لحظة كاشفة، تكشف عن مأساة أعمق: أن الإنسانية ترفض المساواة لأنها تهدد مصالحها. رفضها الفراعنة، ورفضها القياصرة، ورفضها النبلاء، وترفضها اليوم الرأسمالية المتوحشة. ومع ذلك، تبقى المساواة قدرًا لا مفر منه؛ لأنها النداء الخفي الذي يسكن أعماق الإنسان: أن يكون أخًا لأخيه، لا سيدًا ولا عبدًا، بل مجرد إنسانٍ أمام الله وأمام التاريخ.
#مناظير_جديدة
Source