أحمد عثمان جبريل يكتب: السودان .. هل تكتب الخرائط خلاصه أم تُعيد تدوير التيه؟
❝ من لا يستطيع أن يعيد تخيّل العالم، لا يستحق أن يعيش فيه. ❞
— ألبر كامو
حين يخيم الظلام، لا يظلّ النور مطلوبًا فقط، بل ضروريًا كالأوكسجين.. والسودان، منذ أُشعلت فيه شرارة الحرب بين الجيش والقوات التي خرجت من رحمة كما قال المخلوع البشير، وعاد يرددها خلفه البرهان، لا يبحث عن النصر، بل عن النجاة.. عن بقعة ضوء في آخر النفق تتيح له أن يرى نفسه مرة أخرى، فقد كان غاب قوسين أو دنى من ذلك إلا ان الذين ظنوا ان الإطاري مقطوع الطاري سيسلبهم كل شيء حتى الحياة اوقفوا رحلته للوصل عبر النفق لذلك الضوء في آخره، فطمس الدخان الملامح، وابتلع الرصاص أصوات المدن، وشوّهت الحرب حتى الأمل.
ليست الخرطوم اليوم عاصمة سياسية بقدر ما هي شاهد على الجرح. ولا دارفور مجرد إقليم منكوب، بل اختصارٌ صارخٌ للعجز العالمي والخذلان المتكرر. لم تعد الحرب في السودان مجرد نزاع على سلطة أو صراع نفوذ، بل أصبحت آلة جرف عملاقة تطيح بكل ما هو إنساني .. المدن، المدارس، الأسواق، حتى المقابر لم تسلم. إنها حرب بلا شرف، كما يليق بحروب الداخل.. وضحاياها بلا كرامة.
وفي هذا السياق الكالح، خرج تصريح من واشنطن، تحديدًا من مستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، مسعد بولس، يُعلن فيه عن “خارطة طريق” للحل، وعن تواصل مع الأطراف المتنازعة، مؤكدًا دعم ترمب الكامل لأي اتفاق مستقبلي.. قد يبدو التصريح للوهلة الأولى وكأنه مجرّد مناورة سياسية أو ورقة ضغط مبكرة استعدادًا لعودة محتملة لواشنطن إلى المسرح، لكن التوقيت، واللهجة، والسياق، كلّها توحي بأن شيئًا ما يُطبَخ في الكواليس.
لكن ما الذي يمكن أن تُقدّمه خارطة طريق جديدة في بلد اعتاد الخرائط وكفرَ بالطرقات؟
المبادئ الأساسية لأي تسوية ليست صعبة الفهم: وقف إطلاق نار فوري، انسحاب القوات من المناطق المدنية، تشكيل حكومة تكنوقراط محايدة، البدء في عملية دمج للقوات، حوار وطني شامل، وانتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية. هذه البنود، رغم وضوحها، ليست إلا العناوين.. ليبرز الأسئلة المهمة: كيف تُنفّذ؟ ومن يُشرف؟ ومن يضمن؟ ومن يدفع ثمن التنازلات؟
صحيح أن الحرب أرهقت الطرفين، واستنزفت أرواح الجنود والمدنيين معًا، لكن التعب لا يعني الاستعداد للسلام.. هناك من يرى في المعركة طريقًا إلى الشرعية، ومن يظن أن التراجع موتٌ بطيء.. هناك أطراف إقليمية تتربّص بالمشهد، وأخرى تغذّيه لأسباب تتجاوز حدود السودان. بل إن داخل كل طرف من أطراف الصراع، توجد انقسامات خفية، قد تنقلب في لحظة ضد أي حل لا يرضي شهوات النفوذ أو الغنيمة.
ومع ذلك، فإن القراءة المتأنية للمشهد تُظهر أن هناك نافذة، صغيرة لكن مفتوحة.. الشارع السوداني، الذي لطالما كان ضحية الصراعات، بات يمثّل قوة صامتة لا يمكن تجاوزها. الرأي العام منهك، لكنه واعٍ.. الضمير الجمعي لم يُهزم، حتى لو انكسر ظهر الدولة.. وكل مبادرة لا تضع هذا الشعب أولًا، ستسقط، ولو وُقّعت أمام عشرين كاميرا وبحضور ألف دبلوماسي.
أما عن خارطة الطريق المقترحة، ففرص نجاحها مرهونة بثلاثة شروط لا يمكن القفز فوقها:
أولها، أن يكون وقف إطلاق النار مشروطًا بالخروج الكامل من المدن، لا مجرّد تهدئة مؤقتة يُستغلّ لتعديل خطوط القتال.
ثانيها، أن تتشكل الحكومة الانتقالية من شخصيات لا انتماء عسكريًا لها ولا ولاء حزبيًا قديمًا، بل ممن تبقّت لهم سمعة نظيفة وعقل بارد.
وثالثها، أن تبدأ عملية حقيقية – لا شكلية – للمحاسبة والعدالة الانتقالية، لا من باب الانتقام، بل من باب ردّ الاعتبار للضحايا، ولمن فقدوا كل شيء ولم يُستشاروا حتى في الحرب التي التهمتهم.
ويبقى السؤال الأكبر والمهم: من الذي يمكنه فرض هذه الخارطة؟ وهل تكفي التصريحات، أم أن الأمر يحتاج إلى اتفاق دولي واسع، لا مجرد دعم من شخصيات نافذة خارج السلطة؟ وهل يمكن للسودان أن يُعيد تخيّل نفسه، لا كما تريده الجغرافيا، بل كما يريده التاريخ الذي أهين كثيرًا في هذه السنوات؟
ربما.. وربما فقط، تكون هذه الخريطة مخرجًا، إذا قُرئت لا كوثيقة سياسية، بل كعهد أخلاقي. فالسودان، الذي قاوم لعقودٍ كل محاولات التهميش والتمزيق، لا يستحق أن يُترك في الظلام مجددًا.
لأن ما تبقّى منه، وإن بدا حطامًا، لا يزال قابلاً للترميم. لأن فيه، رغم كل شيء، ناسًا يشبهون الحياة.. أيها العالم .. أيها المتقاتلون .. الشعب السوداني يستحق الحياة.
إنا لله ياخ..الله غالب
#شبكة_رصد_السودان
Source