المتهم الأول ليس مشار، بل ذاكرة اتفاقية سلام لم تُنفّذ إلا في الشعارات .
✍🏽 صمويل بيتر اوياي
قبل الدخول إلى جوهر القضية، لا بد من التذكير بأن أبسط المبادئ القانونية التي تُدرَّس لطلاب السنة الأولى في كليات الحقوق و القانون هي مبدأ اختصاص المحكمة، إذ لا يجوز نظر أي دعوى قبل التحقق من أن المحكمة مختصة نوعيا ومكانيا وشخصيا بها. غير أن ما نراه اليوم في جوبا يكشف عن جهلٍ فادح لدى بعض المشتغلين بالقانون ودارسيه بهذا المبدأ الأصيل، حيث تُستهل الدعوى ضد شخصيات سياسية باتهامات جسيمة دون أن يُحسم أولاً ما إذا كانت المحكمة ذات ولاية أصلاً للنظر فيها. وكأن القانون هنا مجرد ديكور يُعرض في قاعة الحرية، بينما القرار السياسي هو الحاكم الحقيقي لمسار المحاكمة.
وفي ظل هذا المشهد، يبرز سؤال مشروع: ماذا يريد سلفاكير من هذه المحاكمة بالضبط؟
الجواب ليس العدالة، بل السياسة. يريد الرئيس أن يُبقي رياك مشار حيا سياسيا ولكن مُقعدا، متهما دائما دون إدانة، حاضرا شكليا في الحكم وغائبا فعليا عن التأثير. إنه لا يريد التخلص منه نهائيا فيفتح الباب لبديل أكثر خطرا، ولا يريد منحه مساحة للعودة كلاعب حقيقي. إنها لعبة إبقاء الخصم في “منطقة رمادية” ، لا حيّ ولا ميت سياسيا .
وفي العمق، يسعى سلفاكير عبر هذه المحاكمة إلى تحقيق عدة أهداف:
إضعاف مشار بلا إقصاء كامل ، بحيث يظل موجودا لكنه مُعطّل، ليكون درسا لبقية الطامحين في خلافته في السلطة .
تحويل القضاء إلى أداة حكم: المحكمة هنا مسرح لإرسال رسالة: من يعارض الرئيس سيقف يوما في قفص الاتهام.
إعادة إنتاج سردية الشرعية: أمام الخارج يظهر كرجل الدولة الذي يقدّم خصومه للعدالة، وأمام الداخل كحارس “الشرعية”.
كسب الوقت وترتيب الخلافة: المحاكمة تُعطيه هامشًا لتقوية نفوذه العائلي والسياسي من دون ضغط مباشر من المعارضة.
صرف الأنظار عن الفساد والانهيار الكامل للنظام ، خاصة التقرير الاممي الاخير و ما يتبعه من فرض مزيد من العقوبات ضد شخصيات سياسية ، حين ينشغل الرأي العام بمسرحية المحاكمة، يظل ملف المليارات المنهوبة بلا مساءلة.
من هنا، يصبح من السذاجة الاعتقاد أن المتهم الأول هو د. رياك مشار أو رفاقه. المتهم الأول في هذه المحاكمة هو ذاكرة اتفاقية السلام نفسها و الوطن بالكامل ، تلك الاتفاقية التي وُقِّعت تحت الأضواء واحتُفل بها في الشعارات، لكنها لم تُنفّذ إلا في حدود الخطابة والبيانات الرسمية.
كيف يمكن لاتفاقية أن تُبشِّر بالسلام ثم تتحول إلى مرجع للتصفية السياسية؟ كيف تُصبح نصوصها مادة للاحتفال الرسمي لا أكثر، بينما ميادين القتال والأزمات لم تعرف السكون يوما؟ إن ما يُحاكَم اليوم في جوبا ليس مجرد شخصيات سياسية، بل الوهم الكبير بأن التوقيع يساوي التنفيذ.
قاعة الحرية التي يُفترض أن تفتح أبوابها للعدل والكرامة، صارت مسرحا لتصفية الحسابات القديمة بين رفاق السلاح. هنا، تُستحضر الاتفاقية مثل شاهد زور: يُذكر اسمها في الخطب والبيانات، لكنها غائبة عن حياة الناس، لا أثر لها سوى كلمتين مكررتين في كل مناسبة: سلام مستدام.
المفارقة المؤلمة أن الذين وقعوا الاتفاقية متهمون اليوم بأنهم وراء الحرب، بينما الذين عطّلوا تنفيذها يجلسون في موقع القاضي. هذه ليست عدالة بل إعادة إنتاج لسياسة “المتهم الدائم”؛ حيث تتحول الاتفاقيات إلى رهائن، والحرية إلى عنوان بلا مضمون، والعدالة إلى فاصل درامي في مسرحية سلطة لا تنتهي.
لكن – وبرغم كل هذا – يبقى في الأفق بصيص أمل. ذلك الأمل يطلّ من على منصات القضاء، حيث ما زال في القضاة رجال ونساء قادرون على أن يصونوا القسم، وألا يسمحوا للسلطة أن تستخدمهم كأدوات في مسرحياتها. نحن لا نطلب المستحيل، بل نطلب فقط أن يبقى القضاء ملاذًا للشرفاء، حينما يُحاكم الأبرياء ويُبرّأ اللصوص، وحينما يُزجّ بالأبرياء خلف القضبان بينما يتصدر سارقي المليارات تشريفات السلطة.
إن واجب القضاة اليوم أن يكتبوا للتاريخ أنهم وقفوا في صف العدالة، لا في صف الظلم. وأن يثبتوا أن قاعة الحرية ليست مجرد خيام تحمل اسما ساخرا، بل منارة يمكن أن يبزغ منها فجر الحرية الحقيقي في جنوب السودان، يوم تُرفع الموازين عن كاهل المظلومين و الشعب ، ويُحاسَب من سرق الشعب قبل من اختلف مع الحاكم.
من قاعة الحرية يجب أن يبزغ فجر الحرية ، لا أن يدٌفن فيها معناها و ترتبط بذاكرة الظلم و إساءة العدل .
Source