أحمد عثمان جبريل يكتب: الفاشر والخرطوم.. الموتُ بلا صوت
❝ ما أكثر الجرائم التي تُرتكب باسم الصمت. ❞
ـ جان بول سارتر
في الفاشر، المدينة التي كانت لسنوات القلب النابض لشمال دارفور، لم يعد القصف هو العنوان الوحيد للمأساة. فهناك، يتراجع الرصاص لحظة، فيتقدّم الجوع. وحين يهدأ القتال قليلًا، تعود الأوبئة لتأخذ حصتها من الأرواح. منذ أكثر من أربعة أشهر، يعيش عشرات الآلاف من المدنيين في قبضة حصار خانق تفرضه قوات الدع*م الس*ريع. الحصار لا يكتفي بعزل المدينة جغرافيًا، بل يعزلها إنسانيًا. لا إغاثة تصل، لا دواء يعبر، لا ممر إنساني يُفتح.. كل من بداخل المدينة، محاصر بين الجوع والمرض والخوف، بينما لا يملك من هم في الخارج أكثر من الانتظار أو البكاء.
منظمات الإغاثة تصف الوضع بالكارثي، لكن ما هو أبعد من الكارثة، أن العالم لا يصغي.. أطفال بلا حليب، نساء يفقدن حياتهن على أبواب المشافي المغلقة، جرحى يُتركون للموت لأن المستشفيات لا تملك حتى الشاش.. في هجوم واحد على مخيم النازحين، تجاوز عدد القتلى السبعين، بينهم مصلّون داخل مسجد. والمأساة الأكبر، أن هذا الرقم لم يعد مفاجئًا، بل صار اعتياديًا ضمن مشهد بات يعتاد الخراب.
في الخرطوم، العاصمة التي كانت يومًا ما قلب السودان، انزلقت الحياة إلى مستنقع أوبئة وأزمات لا تنتهي.. حمى الضنك تتفشى وسط أحياء مكدسة بالنفايات، والبعوض يسرح في مدينة بلا منظومة بيئية ولا جهاز صحي فاعل. المستشفيات في أغلبها مغلقة، أو تعمل بقدرات شحيحة لا تسمح حتى بإجراء تحليل دم بسيط.. الدواء مفقود، الأطباء منهكون ان وجدوا، وأصوات المرضى تتكاثر بلا صدى. المواطنون لا يسألون متى ينتهي المرض، بل يسألون أين يجدون المحاليل، ثم يسألون كذلك عن أقرب تكية تعينهم على الصمود ليوم إضافي.
الجوع الكافر يقتل احشاء مدينتا الإنسان .. فقد تجاوز كونه أزمة اقتصادية. تحوّل إلى أداة قتل ممنهجة لا تحتاج إلى رصاص. في كثير من أحياء الخرطوم، يعيش الناس على وجبة واحدة في اليوم، إذا توفّرت. الطوابير أمام التكايا أصبحت مشهدًا يوميًا، والكرامة تُعلّق على أبواب الطهي الخيري. أمهات يخفين جوعهن خشية أن يُفضحن، وآباء يعودون إلى بيوتهم دون أن يحملوا سوى الاعتذار.
ومع كل هذا، تقف حكومة كامل إدريس بعنوان الأمل المزعوم على هامش المأساة. فمنذ تكليفها، لم تظهر خطة واحدة واضحة لإدارة الوضع الإنساني أو الصحي أو الغذائي. لا تحرك جاد في ملف السلام، لا تدخل فعلي في مناطق الكارثة، لا تواصل مع الشارع الذي ينهار تحت الضغط.. و التصريحات إن وُجدت، فهي لا بوصلة لها، غامضة، ومرتبكة. وكأن في الأمر تواطؤًا بالصمت، أو عجزًا يُراد له أن يبدو طبيعيًا.
في لحظة مفصلية كهذه، كان يفترض أن تتحرك الدولة بكامل مؤسساتها، لا أن تغيب عن الصورة تمامًا. السودانيون لا يطلبون المعجزات. كل ما يريدوه هو حد أدنى من المسؤولية، وخطّة حقيقية لحماية ما تبقى من حياة.
لا أحد يطالب بحلول شاملة وسط حرب، لكن ترك الناس ليموتوا جوعًا أو حُمى، هو خيانةٌ صريحة لكل فكرة عن الدولة.
لو أُجري اليوم إحصاء حقيقي لضحايا هذه الحرب، فلن يكون الفارق كبيرًا بين من سقطوا برصاصة، ومن حصدهم الجوع أو المرض. فالموت لا يحتاج إلى سلاح، يكفي أن تترك الناس وحدهم.
ما يحدث في السودان اليوم ليس ظرفًا عابرًا، بل انهيار كامل لوظيفة الدولة، وعجز مطلق عن حماية المواطنين. والأسوأ من ذلك، أن يتحوّل كل ما يجري إلى خبر عادي، أن يصبح الجوع مشهدًا مألوفًا، وأن يُقابل صوت بعوض حمى الضنك بصمت الوزارات. هذه ليست حربًا بين جيشين، بل حرب ضد الحياة ذاتها. وفي كل يوم يمر، هناك من يسقط، ليس لأنه أخطأ أو قاتل، بل فقط لأنه كان في المكان الخطأ من الجغرافيا، وفي التوقيت الخطأ من التاريخ.
فهل ما زال هناك من يعتقد أن الصمت خيارٌ محايد؟ وإلى متى الصمت .. إنا لله ياخ .. الله غالب .
#شبكة_رصد_السودان
Source