[ad_1]
أحمد عثمان جبريل يكتب: ما الذي يمنع المؤتمر الوطني من الاعتذار للشعب السوداني؟
“الاعتراف الحقيقي لا يُنقص من قدر صاحبه، بل يعيده إلى إنسانيته.”
– بول ريكور
ربما لم تكن هذه العبارة يومًا أكثر مطابقةً لحالةٍ من حالتها الآن في السودان. ليست فقط دعوةً أخلاقية لقول الحقيقة، بل مرآةٌ معلّقة في وجه حزبٍ ظل يحكم بقبضة الحديد والنار.. وبالرغم من أن ثورة شعبية عارمة أزاحته من حكم البلاد، إلا أنه لم ينسحب من المشهد وظل ظلاً من خلف ستار، وكذلك دون أن يُسحب من وعي الناس. هناك، حيث لا تزال الندوب مفتوحة، والأصوات حبيسة الذاكرة، والخراب يتجوّل بلا استئذان بين تفاصيل الحياة اليومية.
في خضم هذا الخراب، يبرز سؤال جوهري كجدار لا يمكن القفز عليه: ما الذي يمنع المؤتمر الوطني من الاعتذار للشعب السوداني؟
لماذا لا يجد هذا الحزب الشجاعة اللازمة ليقول ببساطة: لقد أخطأنا؟
لماذا، بدلًا من مواجهة الحقيقة، يختار أن يقدّم نفسه من جديد عبر تحالفات مفاجئة، ومبادرات مدهشة، كما في المقال الأخير الذي كتبته القيادية بالحزب، سناء حمد، حيث دعت بشكل غير مسبوق إلى تحالف مع الحزب الشيوعي — الخصم التاريخي للحركة الإسلامية؟
ما قالته سناء في مقالها التاريخي، لم يكن مجرد فكرة، بل إشارة داخلية إلى أن التيار الإسلامي، أو جزءًا منه، بدأ يدرك أن المشروع القديم قد بلغ نهايته. ولكن ما يلفت النظر في هذا الطرح، ليس مضمون التحالف فحسب، بل الطريقة التي قُدّمت بها الفكرة. فقد جاءت بنبرة تعالٍ على الذات، خالية من المراجعة أو الاعتراف بالأخطاء، والغريبة أنها طلبت من الشيوعيين وهي تخاطبهم التعالي على الذات وكأن الكارثة لم تقع، وكأن السنوات لم تُهدَر، وكأن الدم لم يُسفك.
ولعل هذا التعالي هو أول خيط في فهم ما يمنع الاعتذار. فالحزب، كما نشأ وتربّى، لم يعرف كيف ينظر في المرآة. بُني خطابه على أساس أنه حامل للحقيقة، وليس طرفًا في نزاع. الاعتذار، وفق هذا المنطق، ليس مجرد تراجع، بل هدمٌ لهويةٍ تأسست على يقين مطلق. كيف تعتذر وأنت ترى نفسك المخلّص؟ كيف تقول “أخطأت” وأنت تظن أنك كنت تبني دولة الرسالة؟
لكن خلف هذا الجدار العقائدي، هناك أيضًا حسابات أشد برودًا. الاعتذار، في نظر من يفكرون سياسياً داخل الحزب، قد يفتح أبوابًا لا تُغلق. إذ لا يُنظر إليه كموقف أخلاقي فحسب، بل كإقرار قانوني قد يُستثمر في ساحات العدالة. والخوف هنا مفهوم، لكنه لا يعفي من المسؤولية. فالدم لا يُمسَح بالتقادم، والحقوق لا تختفي لأن مرتكبيها لزموا الصمت.
ثم يأتي الثقل التاريخي. المؤتمر الوطني لم يكن مجرد حزب، بل دولة كاملة، امتلك فيها مفاصل السلطة والمال والدين والتعليم. والاعتراف بالفشل هنا لا يعني فقط قبول الخطأ، بل تفكيك سردية امتدت لثلاثة عقود. أي اعتذار من هذا النوع سيكون بمثابة قطع مع ماضٍ يرفض أن يرحل. ولهذا، فإن الصمت أسهل. وأن تعيد تموضعك عبر تحالفات جديدة قد يبدو أكثر أمانًا من الغوص في محاسبة النفس.
غير أن السياسة ليست دائمًا حسابات باردة، ولا الذاكرة الشعبية ورقة قابلة للطيّ كلما لاحت فرصة للعودة. الشعوب قد لا تغفر بسهولة، لكنها تميّز بين من يواجه ماضيه بشجاعة، ومن يهرب منه بمكابرة. وقد رأينا في تجارب كثيرة كيف أن الاعتذار، حين يأتي نقيًّا من المراوغة، يصبح لحظة مؤسسة لوعي جديد، لا مجرد وثيقة في الأرشيف. أحزاب كبرى حول العالم فعلت ذلك، في أمريكا اللاتينية، وأوروبا، وحتى في أفريقيا، حين وضعت الحقيقة أمام الناس وطلبت الغفران. لم يكن الغفران مضمونًا، لكن الحقيقة كانت البداية.
فلنتخيّل، فقط لوهلة، أن المؤتمر الوطني قرر الاعتذار حقًا. لا اعتذارًا سياسياً غامضًا يُعلّق المسؤولية على الظروف، أو يُحمّل “شركاء الحكم” فشل التجربة، بل اعتذارًا مباشرًا، يقول فيه: نعم، أخطأنا. ظلمنا. وآن لنا أن نتحمل نتائج أفعالنا قبل أن نطلب العودة بأي شكل.
هل سيقبل السودانيون ذلك؟ لا إجابة قاطعة هنا. فالجراح عميقة، والغضب لم ينطفئ. لكن الاعتذار، إن جاء نقيًا وصادقًا، قد يمنح الحزب شيئًا واحدًا فقط: شرف الاعتراف. لا شرف العودة، ولا استعادة النفوذ، بل الخروج من التاريخ بكلمة تُقال واقفًا، لا بصمتٍ مذعور.
هذا هو المحك الحقيقي. أن تعتذر لأنك تُدرك ما فعلت، لا لأنك تبحث عن مخرج. أن تقولها للناس الذين جاعوا، وتشرّدوا، وفقدوا، وانتظروا. أن تخاطبهم لا بوصفهم “جمهورًا انتخابيًا”، بل بوصفهم الضحايا الذين يستحقون أن يُقال لهم — ولو مرة : “عذرًا”.
وما لم يفعل المؤتمر الوطني ذلك، فإن كل دعوة جديدة، وكل تحالف غريب، لن يكون أكثر من محاولة لتدوير الذاكرة دون تنظيفها.
فالتاريخ لا يغفر للذين راوغوا حتى النهاية. بل لأولئك الذين امتلكوا شجاعة الوقوف في منتصف الطريق، وقالوا الحقيقة — ولو متأخرين.. إنا لله ياخ.. الله غالب .
#شبكة_رصد_السودان
[ad_2]
Source  


 
			 
			 
                               
