[ad_1]
هشام أحمد شمس الدين
مجموعة الأحياء والتجديد
“وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه وأقفر ساكنه وبدّلت الأرض فيه غير الأرض..”
مقدمة ابن خلدون
ذكر ابن خلدون العرب في مقدمته في الفصل الخامس والعشرين وفصل فيهم القول، وما كان ابن خلدون يقصد بالعرب عموم الجنس المشهور، إنما هم ساكنة البادية تمييزًا لهم عن ساكنة الحضر، وذلك على خلاف ما سار به المتعنصرة، أما القرآن فقد حدد الاسم بدقة فأطلق مسمى الأعراب تمييزًا عن العرب، وقد فسر القرطبي ذلك قائلاً إن العرب هم أهل الأمصار (المدن والقرى) والأعراب ساكنة البادية، فحديث ابن خلدون ليس عن جنس أو عرق، إنما عن ثقافة تكونت بفعل البيئة المقفرة والنشاط المعاشي المعتمد على الحيوان والترحال، ثم الانعزال والجهل والريبة من الغريب وهشاشة التفاعل مع الثقافات الأخرى، عوامل شتى ولدت الغلظة والقسوة وسوء الخلق ورداءة الدين ونقائض الحضارة والتمدن، وبالتالي قد يكون الأعراب عربًا في الجنس وقد يكونون بربرًا أو مغولًا أو جيرمان أو غير ذلك.
وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن”، وقد علل ابن كثير أن الله عز وجل لم يبعث رسلا من أهل البوادي، حيث لما كانت الغلظة والجفاء فيهم لم يبعث منهم إنما من أهل القرى أي الحضر، فالآية: “وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى”، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع بالأعراب دفعا ليتركوا باديتهم ويلتحقوا بالحضر، فتتلاشى ثقافة الغلظة والقسوة والجفوة والنفاق، وقد منع منهم الفيء والغنيمة إلا أن يلحقوا بدار المهاجرين ويجاهدوا معهم.
ويبسط ابن خلدون في مقدمته أخلاق هؤلاء وطبائعهم حيث “أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث (فوضى واستباحة) ينتهبون ما قدروا عليه”… “وأمّا البسائط (الأرض المنبسطة أو السهول) فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية (المدافعين) وضعف الدولة فهي نهب لهم وطمعة لآكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزّف (موجات وموجات من الإغارة) لسهولتها عليهم”… “والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقا وجبلّة (طبع) وكان عندهم ملذوذًا (يستلذون به) لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلُّب”… “فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلُّب والملك (إذا وصلوا إلى السلطة) بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران”… “وأيضا فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد” (لا يتعاونون على إقامة الحدود فهم يجهلونها أو يتجاهلونها).
وقد ذكر ابن خلدون عجيب قول الأعرابي الذي دخل على الخليفة عبد الملك بن مروان، فعندما سأله عبد الملك عن سياسة الحجاج بن يوسف الثقفي، أراد الأعرابي أن يمدح الحجاج ويثني عليه أمام الخليفة فقال: “تركته يظلم وحده”، إي أن الحجاج حسن السياسية في الرعية، فهو يظلم الناس وحده ولا يترك لاحد فرصة للظلم معه! فهذه هي نظرتهم للحكم والسياسة والرياسة.
و”الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم”، ففي أهل الحضر كفار ومنافقين، ولكن أقصى دركات الكفر والنفاق والتجاهل لحدود الله تكمن عند الأعراب الغلاظ قساة القلوب، “ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم”.
وقد ذهب بعض الفقهاء مذهب ألا يؤم أعرابي المسلمين وإن كان أقرأهم للقرآن استنادًا على الآية، وهذا بالطبع مذهبٌ متعسف، فتلك الطباع المنعكسة في القول الظاهر والباطن وفي العمل والسعي وفي ملامح الوجوه، وإن استغرقت خلقًا كثيرًا منهم إلا أن الآية قد استثنت بعضهم فـ “من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم”، فبرحمة الله استثنى الله عز وجل منهم قوما، وقد ذكر النبي صلى الله عليهم وسلم بعضا منهم ففي حديث هم قبائل “أسلم” و”غفار” وشيء من “جهينة” و”مزينة”، وفي حديث آخرون.
فقد يتبدل حال الأعرابي إذا دُحِرَت ثقافته وجِبِلَته التي نشأ عليها بشيء من دين أو بثقافة قاهرة ينفك بها عن ربقة القفار ويختلط عبرها بمكامن التمدن التحضر.
هذا ما غاب عن الساسة، النظر في أحوال الناس، في طباعهم وأخلاقهم وطرق كسب معاشهم الموروثة، في تأثير بيئاتهم وتشكيلها لثقافاتهم، غاب عنهم الأخذ بشيء من طرق التحليل الاجتماعي والاقتصادي، واعتنوا بكيفية الإخضاع الهش، فتركوا الباب مشرعا للتوحش والتقلب في وحل الجهل.
[ad_2]
Source


