[ad_1]
السودان بين وصاية الخارج وإرادة الداخل
بقلم: شول الدين لام دينق
من يقرأ بيان الرباعية الصادر في 12 سبتمبر يظنه نصاً وديعاً يتغنى بالسلام ويذرف الدموع على معاناة السودانيين، لكنه في العمق ليس سوى محاولة ناعمة لفرض وصاية جديدة على السودان، وكأن هذه الأرض العريقة لم تُطو صفحة الاستعمار منذ عقود بدماء شهدائها وتضحيات رجالها.
إنه بيان يصدر عن عواصم دأبت على التدخل في مصائر الشعوب، عواصم تتحدث بلسان العطف بينما أياديها مثقلة بتاريخ طويل من إشعال الحروب وتفكيك الأوطان، من بغداد إلى طرابلس ومن صنعاء إلى دمشق.
فمن أي منبر أخلاقي يأتون اليوم ليعلموا السودانيين معنى السيادة؟ ومن أي منصة إنسانية يلقون المواعظ عن حماية المدنيين، وهم الذين لم تجف دماء الأبرياء في مسارح حروبهم؟ إنهم يتحدثون عن وقف القصف العشوائي، بينما صواريخهم البعيدة المدى ما زالت تقتات أرواح الشعوب منذ سنوات. يتباكون على السيادة الوطنية وهم أنفسهم أوّل من يهدرها حينما تتعارض مع مصالحهم أو خطوط نفوذهم.
السودان، أيها السادة، ليس أرضاً سائبة حتى يُقرر مصيره على طاولات بعيدة في نيويورك أو القاهرة أو الرياض أو أبوظبي. السودان أمة ضاربة في جذور التاريخ، عرف ممالك النوبة قبل آلاف السنين، وبنى حضارات علّمت العالم معنى الكرامة والمقاومة. هذه الأرض التي قاومت جيوش الاستعمار البريطاني، وأسقطت أحلام الغزاة في كرري وأم درمان، لا يمكن أن تعود إلى حظيرة الوصاية مهما تنوعت الأقنعة والمسميات.
ولعل أكثر ما يثير السخرية أن يزعم البيان أن “مستقبل الحكم في السودان يقرره الشعب السوداني”، ثم يضع له خارطة زمنية محددة، وهدنة مشروطة، وانتقالاً مقولباً في تسعة أشهر! فهل صار الشعب السوداني بحاجة إلى وصي يحدد له متى ينتقل وكيف يحكم؟ أي عبث بالسيادة هذا؟ وأي تناقض أن تدّعوا الحرص على الإرادة الشعبية بينما أنتم تسلبونها عبر الشروط والإملاءات؟
أما التحذير من “الجماعات المتطرفة” فهو خطاب مكرر لم يعد يخدع أحداً. إذ ما أسهل أن تُرفع لافتة “التطرف” لتبرير كل تدخل وطمس كل صوت معارض. لقد جُرب هذا السيناريو في العراق حين وُسمت قوى معينة بالإرهاب، فجاء الاحتلال على ظهر الدبابات. وجُرب في ليبيا حين صُنفت جماعات بالخطر، فكان الحصاد دولة ممزقة. فهل تريدون اليوم أن تُعاد المسرحية على أرض السودان؟
وأعجب من ذلك كله، حديث الرباعية عن “خطورة الدعم العسكري الخارجي”. كأن القارئ يجهل أن بعض من وقّعوا على البيان هم أنفسهم من يمدون جبهات الصراع بالسلاح والمال، بل والمرتزقة أحياناً. كيف يحق لمن يغذي النار أن يعظ الضحايا بالابتعاد عنها؟ وكيف يُطلب من الشعب أن يصدق دعوة السلام ممن لم تعرف أياديهم إلا إشعال الحرائق؟
إن الرسالة التي يجب أن يفهمها العالم، والتي نعيد تكرارها هنا بأعلى صوت: السودان ليس أرضاً مستعمرة، وليس ساحة مفتوحة لتجاربكم السياسية. السودان لأهله، وهم وحدهم من يقررون شكل الحكم ونمط الانتقال وزمنه. لا مسارات مفروضة، ولا وصاية مقنعة، ولا قوالب جاهزة تستورد من وراء البحار.
نعم، السودان اليوم يمر بمحنة قاسية، لكن كل أزمة تحمل بذور الحل في داخلها، لا في جيوب الغرباء. إن جيش السودان وشعبه قادرون على إعادة بناء دولتهم، مهما طال الطريق ومهما عظمت التضحيات. فما يميّز هذه الأمة أنها لا تبيع أرضها ولا تساوم على كرامتها.
وعليه، فإن أنسب نصيحة نوجهها لوزراء الرباعية هي: التفتوا إلى شؤون بلدانكم، أصلحوا أوطانكم التي تضج بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ودعوا السودان للسودانيين. فمن لم ينجح في تطبيب جراحه الداخلية، لن يكون طبيباً لأحد.
إن التاريخ علّمنا أن الشعوب قد تنحني تحت العاصفة لكنها لا تنكسر، والسودان اليوم وإن كان في عين الإعصار، إلا أنه سيخرج كما خرج من قبل، مرفوع الرأس، عزيزاً بإرادة أبنائه، مهاباً بجيشه، صامداً بتاريخه. فلتكن الرسالة واضحة: لن يكتب مستقبل السودان إلا بأيدٍ سودانية، ولن يحرس حاضره إلا دماء سودانية، ولن تُصاغ كرامته إلا بإرادة سودانية.
[ad_2]
Source


