[ad_1]
30 يونيو قصة ثورة أكلت أباها فأضحت حضارات سادت ثم بادت.
قرأءة: عوض فلسطيني
صدق الثائر الفرنسي الشهير جورج جاك دانتون عندما قال وهو أمام مقصلة الإعدام ” ان الثورة تأكل أبنائها ” ، مستكملا المثل الفرنسي القائل ” من السهل ان تبتدئ الثورات ولكن من الصعب ان تنهيها بسلام ”
لم يكن الشيخ الترابي عليه الرحمة والحاصل على الدكتوراة من جامعة السربون الفرنسية يظن ان ما قاله الثائر الفرنسي الشهير جورج جاك دانتون يمكن ينطبق عليه حرفياً ذلك حينما إلتهمته ثورة الانقاذ الوطني التي نظر وأطر لها لم يكن يتوقع بأن تنفتح شهيتها لا تكتفي ببعض من بنيها ولكنها بالفعل زداد شراهتها لتلتهم أباها مرة واحدة ، وبذلك حققت الانقاذ سبقاً وسابقة حينما إحتفظت في سجلاتها التاريخية بانها الوحيدة من الثورات التي اكلت أباها.
البداية
في ليلة الثلاثين من يونيو بدأت فصول القصة ليكتمل المشهد في صباح الاول من يوليو 1989م حينما استيقظ السودانيون على وقع موسيقى عسكرية (مارشات) في راديو أم درمان اعلنت عن وجه جديد كرئيس لدولتهم وهو العميد الركن يومها عمر حسن البشير، ليصبح الثلاثين من يونيو من عام 1989م، إنقلاب ثورة الانقاذ الوطني انقلابًاً عسكريًا غير مسار البلاد بعد انقضاضه على الديمقراطية بأسم الثورة المنقذة للبلاد والعباد واتخذ الانقلاب منحىً يُعتبر نقطة تحول في تاريخ السودان الحديث، قد أثار الكثير من الجدل والنقاش حول تأثيراته على البلاد ومستقبلها
البشير والضباط الآخرون في مجلس قيادة الثورة ظلوا يتعاملون مع وضع خارج مدى قدرتهم كانوا إسلاميين، وقد قاموا بتنفيذ حيلة لخداع الذين كان بإمكانهم وأد عملية حيازتة الاسلاميين على السلطة في مهدها.
إذهب الى القصر رئيساً
كانت الحيلة هي إرسال المخططين معهم، ولا سيما الشيخ حسن الترابي وعلي عثمان محمد طه، إلى سجن كوبر مع نواب برلمانيين ونقابيين آخرين، بينما يرتدي الجنرالات زي القومية. ونجحت الحيلة، وأيدت مخابرات اقليمية ودولية انقلاب الانقاذ في يومه الاول ونجحت حيلة إذهب الى القصر رئيساً وسأذهب الى السجن حبيساً.
الانقاذ ليست إستثناء
بالطبع الانقاذ ليست استثناء في تاريخ الثورات التي شهدها التاريخ الحديث والقديم ، فهي كما كل الثورات التي مرت عبر التاريخ لم تخل من الدم والفوضى وطفح الخلاف ما بين اخوة الامس اعداء اليوم الذين انتفضوا ضد النظام في العشرية الاولى لما طاله من فساد ومحسوبية وانحراف عجلة الثورة عن مقاصدها جملة وتفصيلاً.
صراع القصر والمنشية .
الراحل الدكتور جون قرنق علق ذات مرة على صراعات الإنقاذيين وتكالبهم على السلطة والثروة خلال ما عرف وقتذاك بصراع القصر والمنشية الذي أطاح فيه الرئيس البشير بالأب الروحي للأنقاذ الدكتور حسن الترابي وجرده من جميع سلطاته وخرج الترابي من النظام الذي أتى به غضبانا أسفا ولسان حاله يقول لتلميذه البشير،
علمته الرماية ولما اشتد ساعده رماني
قال الراحل جون قرنق بابتسامة ماكرة تنم عن ذكاء لقد راينا الثوارت تأكل بنيها لكننا لم نسمع بثورة تأكل حتى أباها وكان يشير بذلك لاعتقال عصبة الانقاذ للأب الروحي وزعيم ثورتهم -الشيخ حسن الترابي الذي زج به تلامذته في السجن حقيقة عدة مرات بعد أن دخل السجن في أيام الإنقاذ الأولى حبيسا من أجل أن يذهب البشير إلى القصر رئيسا حسب الخطة التي رسمتها الجبهة الإسلامية القومية للتآمر بليل والانقلاب على النظام الديموقراطي في الثلاثين من يونيو عام 1989 كل هذه التفاصيل كشفها الراحل الترابي نفسه عقب المفاصلة الشهيرة بين الاسلاميين.
احداث ومحطات
هذا الانقلاب الذي عرف بثورة الانقاذ الوطني لم يكن مجرد حدث سياسي عابر في تاريخ السودان، بل كان بداية لكثير من الاحداث التي طالت جميع مناحي الحياة منها ما غير خارطة السودان كإنفصال الجنوب ومنها ما ترك اثراً بالغاً على معاش الناس كسياسة التحرير الاقتصادي
بعض الانجازات
امتدت الانقاذ لعقود من السنين التي شهدت تحديات كبيرة في وقت لا ينكر أنها قد صنعت بعض المعجزات وأضافت الكثيرة في السودان. فطوال ثلاثين عامًا، تربع هذا النظام على كرسي الحكم متحداً يجابه الكثير من الرياح العاتية إلى ان تفتت كيانه بعد العشرية الاولى فأصبح وبال على الشعب السوداني بدخول ديمومة صراعات دمّرت القطاعات الحيوية، وعلى رأسها التعليم والصحة والسكة الحديد، وأشعلت نيران الحروب في الأطراف، وعمّقت الفوارق التنموية والتعليمية، وسعى لإعادة تشكيل الحياة الاجتماعية على نهجٍ أحادي اقصائي.
ثورة البترول
ركزت الانقاذ الوطني في بداية عهدها على الذهب الاسود كمنقز للحياة فرمت بثقلها في البترول و بسبب انفصال جنوب السودان، واجه حكم البشير يومها أزمة اقتصادية خانقة لأنه فقد نحو 85 في المائة من الإيرادات التي كانت ترد إلى خزينة الدولة، بما فيها عائدات النفط
الذي سخّرت إيراداته لمنسوبيها بسياسة التمكين، واستخدمت المال العام أداة للبقاء في الحكم، ما أدى في النهاية إلى حالة الإفلاس الشامل التي تمثّلت في عجز الحكومة وشللها الكامل، خاصة في السنين الأخيرة حيث
أثري رموز النظام ثراءً فاحشًا، وبنوا القصور الشامخات، في الوقت الذي عاش فيه غمار الناس في فقرٍ مدقع.
فشل ذريع
المشروعات الكبيرة التي راهنت عليها الثورة في رفاهية الشعب السوداني قد بأت بالفشل الزريع، مثل مشروعات السدود والطرق والجسور التي يباهي بها النظام، لم تُستثمر فيها أموال البترول، بل شُيّدت بقروضٍ مجحفة تركها على عنق السودان، ما زاد ديون البلاد من 12 مليار دولار أميركي حين تسلّم السلطة تقريبًا، إلى أكثر من 50 مليارًا تقريبًا.
ثورة ضلت الطريق
بعد العشرية الاولى لم يبقي من الثورة إلا إسمها إنحطت كل قيمها ومعانيها وانهار مشروعها الحضاري حينما اكلت أبيها فاصبحت كالحاسوب بلا ذاكرة، ورغم القمع والقتل والانتهاكات التي طالت أخوان الامس وعامة الشعب لم تستسلم إرادة السودانيين بما فيهم اخوان الامس القريب
بين الثورة والانقلاب
في ديسمبر 2018م، تفجّرت انتفاضة شعبية انطلقت في 6 ديسمبر في “مايرنو”، ثم الدمازين وعطبرة، وامتدّت لتشمل كافة ربوع السودان.
توحّدت فيها رؤى الشباب والقوى المدنية والنقابية والسياسية، ووضعت حدًا لثلاثة عقود من الطغيان والجبروت، وصولًا إلى سقوط النظام في 11 أبريل 2019م والذي تبادل فيه الانقاذيون التهم فيما بينهم بالتواطؤ والانقلاب الذي انهى جبروت اكبر ثورة في التاريخ امتلكت الامن والسلطة والمال ولكنها فشلت في الخلود.
الأمل الضائع
راهن البعض أن لحظة افول شمس الانقاذ هي بداية لحقبة تاريخية جديد وهي علامة فارقة في عودة الديمقراطية والتحول السلمي للسلطة وقد أعادت للناس الأمل في إمكانية التغيير من دولة الحزب الواحد إلى دولة التعددية السياسية وهو إنجاز لا يمكن فصله عن حركة التاريخ، فالسودانيون خاضوا من قبل تجارب نضالية مشرقة في أكتوبر 1964، تشكّل تحرّك وطني قادته النقابات، وسيطرت على الشارع بتظاهرات متزامنة حتى أسقطت نظام عبود العسكري.
وفي أبريل 1985، هبّت الخرطوم على مدى ثلاثة أيام، وضاقت شوارع العاصمة المثلثة بما رحبت بالمتظاهرين والمنتفضين والمتذمرين من جور الحكم وقسوة الحياة آنذاك، حتى تهاوت أركان الحكم المايوي، وأطاحوا بنظام جعفر نميري.جميع هذه المحطات اكدت أن وحدة الشعب السوداني هي مفتاح الانتصار، وأن الحركات الاجتماعية، حين تتّحد، تخلق المعجزات كما أشار المفكر السياسي صامويل هنتنغتون، فإن الحركات الاجتماعية والمجتمعية قادت أكثر من نصف دول العالم نحو الانتقال الديمقراطي.
التحدي الأكبر.
السودان لم يكن استثناءً لكن التحدي الأكبر الآن يطل برأسه من جديد بهذه الحرب المدمّرة، والتي تدخل عامها الثالث، فتكت بحياة الآلاف، وشردت الملايين من ديارهم، وفتّتت وحدة الوطن.
لا سبيل لوقفها ووقف هذا النزيف، إلا عبر بناء أكبر كتلة مجتمعية موحّدة، تتجاوز الانقسامات، وتتبنى مشروعًا وطنيًا جامعًا، يدعم جهود السلام، ويوقف الحرب، ويؤسس لحوارٍ عادلٍ لا يُقصي أحدًا، وفي خضم هذا العشم تدور عجلات الزمان كل عام في ال30 من يونيو لتنقل لنا ذكرى ثورة من الصعب أن تكون محطة مشرقة في سجل التاريخ دون العظة من تجاربها إن كانت تصلح زاداً للمستقبل ذلك لما خلفته من مأسي ودمار للوطن حتى اضحت اليوم في طور النسيان.
إعادة البناء
بكلمات ابن خلدون “اليوم وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله يرث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، عوالم محدثة”
تعبّر هذه الكلمات عن لحظات التحوّل الكبرى، خاصةً عندما تنهار الأمم بسبب الحرب والاستبداد، فتحتاج إلى إعادة البناء والتنمية.
وهذا لا يتم إلا عبر الوعي، وإصلاح الحوار والسياسة. لكن هذا الإصلاح لا يُبنى إلا بالحكمة، والتي لا يصل إليها الناس إلا من خلال الحوار وتبادل الرأي اصبح السودان اليوم بحاجة إلى إعادة بناء شاملة، لكنها لن تبدأ إلا عندما ندرك أن الحوار الجاد والمسؤول هو السبيل الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم
فبدون الحوار، لن يكون هناك فهم مشترك، وبدون الفهم لن يكون هناك مجال للتحاور.
الآن، لا بد من بذل المزيد من الجهود، رجالًا ونساءً، كباراً وصغار فمواجهة الحرب والمناداة بالسلام والأمن ليست مهمة الساسة وحدهم، بل هي معركة الوعي والتماسك الشعبي، والقدرة على صوغ مشروع جامع ينقذ ما تبقى من السودان، ويعيد الأمل في مستقبل جديد، لا مكان فيه لعسكر ولا سلاح.
مآسي الذكرى
تمضي الذكرى ولا تعدو الانقاذ ان تبدو اكثر من حضارات سادت ثم بادت وهي ثورة قد ابتلعت السودان وشعبه بعد ان اكلت من قبل أبيها وعاشت يتيمة فمن قسى على ابويه لا يحن قلبه لسواه اليوم تنكأ الذكرى الجراح لأربعة ملايين سوداني فرّوا إلى دول الجوار هربًا من الجحيم إلى جحيم آخر في مخيمات اللجوء، وملايين آخرون يفترشون الأرض في مراكز الإيواء داخل وطنهم، وسط ظروف إنسانية قاسية لا تليق بالبشر.
بلد بأكمله يعيش مجازر قتل، وتعذيب، وتشريد، واغتصابات فردية وجماعية و الأوبئة تنتشر، والأطفال يذبلون من سوء التغذية، ويموت الناس من الجوع في بلد كان يُقال عنه يومًا إنه سلة غذاء العالم أليس هذا كافيًا لنقول نحن ضد الحرب؟ ألم يحن الوقت لوقف هذا النزيف لنسد جوع الأطفال، ونواسي الأرامل ألم يحن الوقت لنؤسس مدارس تعلِّم أبناءنا أن لا عودة للحرب، وأن الحياة ممكنة، وأن الوطن ليس ساحة قتال وإحتراب وسلب ونهب، بل هو بيت كبير يسع الجميع.
[ad_2]
Source


