[ad_1]
#أحمد_عثمان_جبريل
#يكتب:
السودان يُنهب مرتين.. ويتحول ذهبه للعنة وشعبه لهشيم”
“الشر لا يعيش لأنه قوي، بل لأن الطيبين يغضون الطرف.”
— إدموند بيرك
في الخراب الممتد من الخرطوم إلى ود مدني، إلى سنار إلى الابيض إلى الفاشر، حيث لا ظلّ لدولة ولا سقف لحياة، يُكابد هذا الشعب البائس موتا مركبا.. موت في الطين، وموت في النار، وموت في الجوع، وموت لا يُرى، حين تنهب ثرواته أمامه وهو ينظر، ثم يُقال له: “أصبر”..
مع أنهم يعلمون أن الصبر وحده لا يُقيم وطناً، ولا يعالج مرضاً ولا يذهب جوعاً، ولا يوقف نزيفاً، ولا يسترد ذهباً .. الذهب الذي يتبخر من تحت أقدامنا لصالح شراكات غامضة، وشبكات لا تُرى في السودان سوى مائدة مفتوحة للنهب.
تُنهب ثروات السودان على مرأى من الشعب.. الشعب الذي لم يعد يجد قوت يومه، تُسرق ثرواته في وضح النهار، من قبل عصابة لا تمثل إلا مصالحها، تُدير الدولة من خلف الستار، وتجعل من الذهب والموارد الطبيعية سوقاً خاصا، تتحكم فيه بالأسماء والعلاقات لا بالقانون.
كل ذلك يحدث والدولة تنظر لكنها تتاغفل بالحرب، الحرب التي أنهكت البلاد، وشردت أهلها في أطراف الأرض، ففي الوقت الذي يقف فيه شعب السودان على حافة جوع لا نهاية له، وبينما تتسرب ثرواته من بين أصابع الدولة، أو ما تبقى منها في هذا المناخ الموبوء باللايقين والانهيار، يتحول الذهب فيها بفعل فاعل من كونه مصدراً للتنمية، إلى عصباً للحرب والفساد .. فما يجري في مناطق التعدين ليس فقط نهباً من الميليشيات وشبكات التهريب، بل هو أيضاً سرقة مقنّنة من داخل حكومة الأمر الواقع، حيث تُمرر عبر عقود رسمية، وشركات غير معروفة، لا أحد يعرف شروط الاتفاقيات التي وقّعت باسم الشعب.
أمس كتبت الصحافية رشان أوشي، مقالاً جريئاً تحت عنوان “صفقات مشبوهة تهدد ثروات الشعب”.. لكنها في الواقع لم تكتب فقط عن صفقة، بل عن نظامٍ موازٍ متكامل، يتصرف في موارد السودان، ويعقد الصفقات باسم الدولة، دون أن يمر عبر أي بوابة مؤسسية مشروعة، أو رقابة حقيقية.
لم تتردد (رشان) في تسمية الأسماء، وهذا أمر نادر في صحافة ما بعد الثورة التي سرعان ما أُعيد إخضاعها، وباتت تتحدث بلسان السلطة، في زمن الصمت، فتحولت إلى بروباغندا.. لقد أشارت (رشان) بوضوح إلى وزير المعادن نورالدائم طه، الذي وقّع صفقة بقيمة 277 مليون دولار مع شركة “ديب ميتالز”، التي اتضح لاحقًا أن ملكيتها موزعة بين رجل أعمال مصري، ورجال أعمال سودانيين من أصحاب السجلات المثقلة بالاتهامات، مثل عمر النمير ومبارك أردول.
أردول، الذي كان مديراُ للشركة السودانية للموارد المعدنية، بات اليوم شريكًا في شركة تستثمر في الذهب، دون أن نعرف من أين أتى بالتمويل، أو كيف انتقل من موظف حكومي إلى صاحب حصة بالملايين، هل حدث هذا ضمن دائرة الشفافية؟ أم أنه تجسيد عملي لما يُعرف بـ”تضارب المصالح”؟ أين هي الدولة، حين يصبح كبار موظفيها شركاء في شركات تُمنح عقودًا حكومية؟
ما تم كشفه من معلومات يشير بوضوح أن هؤلاء الاسماء، أضحوا رموز منظومة للفساد، مع آخرين ربما لم يظهروا في الصورة، أسماء بلا مساءلة على رأسهم مبارك أردول، الذي كان مديرًا للشركة السودانية للموارد المعدنية، واليوم بقدرة قادر تحول إلى شريك في شركة “ديب ميتالز” فكيف انتقل من خدمة الدولة إلى التربّح منها.
أما عمر النمير، الذي يُعرف نفسه بأنه رجل أعمال، هو في الأصل صاحب سجل جدلي، ومن أبرز المتورطين في قضية بنك النيلين فرع أبوظبي، يظهر اليوم كشريك رسمي في صفقات الذهب.. والسؤال فكيف تسمح الدولة لشخص بهذه الخلفية أن يدخل من الباب الواسع لثروات السودان؟ ثم يأتي نورالدائم طه: وزير المعادن، صديق أردول والنمير، والذي وقع صفقة كبرى باسم الدولة مع شركة غير معروف سجلها التجاري، ولم تعرض تفاصيلها للرأي العام، أو أي جهة رقابية.. و في حفل السكاكين الطويلة، يظهر خالد شمو: مدير شركة MBS المحتكرة لاستيراد كيماويات التعدين، وابن خالة أحمد هارون، مدير هيئة الأبحاث الجيولوجية، و الاثنان قد سافرا إلى القاهرة ضمن وفد رسمي، بينما تقبع الشركات الوطنية خارج المشهد.
الفساد ياسادة هنا، ليس خللاً مؤقتًا، بل بنية بديلة تستولي على الدولة من الداخل، عبر وزراء، رجال أعمال، موظفين سابقين، وكلهم يجمعهم شيء واحد، لا علاقة لهم بالشعب، لا في معاناته، ولا في آماله.. لقد حاولت (راشان) من خلال الحيثيات التي اوردتها، أن تُذكّر بأن ما يحدث ليس قدرا، بل نتيجة مباشرة لفساد مؤسس، تقوده “شلليات” تربطها المصالح، وتدير البلاد وكأنها شركة خاصة .. وما يجب قوله هنا. أن الخطير في هذه الوقائع ليس فقط الأسماء، بل غياب أي مؤسسة رادعة، لا ديوان مراجعة يتحدث، لا قضاء يتحرك، لا برلمان يُسائل.. ما يعني أن ما يحدث هو استباحة صريحة لموارد بلدٍ جائع، اسمه السودان، يموت أطفاله في النزوح، بينما تُنهب ثرواته في المكاتب المكيفة.
إن مقال الصحافية رشان أوشي ليس مجرد رأي عابر، بل بلاغ وطني، يُفترض أن تتحرك على أساسه الدولة، إن كانت لا تزال قائمة، فما كشفته من معلومات ليس مجرد صفقات مشبوهة، بل هيكل موازٍ للسلطة والاقتصاد، تديره شبكة من المسؤولين ورجال الأعمال، عبر شراكات مبهمة، واتفاقيات غير شفافة، وتواطؤ مؤسسي مخزٍ.
إننا نقول: لا يمكن أن تُبنى دولة على أنقاض الشفافية والعدالة.. لن ينهض السودان طالما يُدار (كدكان) خاص، يُمنح فيه الذهب لمن يشاء، ويُسحق فيه الشعب كما يشاء الطامعون.
فحين ينهار القانون، وتغيب الدولة، يصبح الفساد هو الحاكم الفعلي. وحين تصمت المؤسسات، تصبح الكلمة الحرة هي آخر جبهة دفاع عن الوطن.
إن غياب الدولة الحقيقي ليس فقط في سقوط العاصمة أو احتلال المؤسسات، بل في تحوّل مفاصلها إلى أدوات في يد الفاسدين.. ذلك عندما يصبح الوزير شريكًا في شركة تعدين، والموظف السابق رجل أعمال، والصفقات تمر دون مساءلة، حينها ليست دولة، بل “سوق كبير” تُباع فيه ثروات الناس، ويُشرعن فيه النهب.
السودان ياسادة للأسف، نُهب مرتين نهبونا أول مرة بالسلاح. دمروا الأسواق، المصانع، البيوت، المدارس، ونهبونا ثانية بالحبر، والتوقيعات، والمكاتب المكيّفة.. ففي زمن الحرب، لا يبقى شيء محرم، يُسرق البنك. يُنهب المستشفى. تُصادر الحقول. يُباع الذهب.. لكن أقسى ما في هذا كله، أن يتم ذلك باسم القانون، ومن داخل الوزارات، وبمباركة الصمت الرسمي.. يتم كل ذلك بينما الشعب يضطر لدفن أطفاله في معسكر النزوح، وهناك توقّع صفقات الذهب بملايين الدولارات خلف ظهره.
إنا لله ياخ..الله غالب.
[ad_2]
Source


