[ad_1]
ذكرى ميلادي المنسيّة
كلما اقتربت ذكرى مولدي، شعرت أنها محض رقم على جدار العمر، إلا هذا العام؛ إذ تزامن ميلادي مع مولد الحبيب المصطفى، كما لو أن بشارة عظيمة غمرت نفسي، وأشرقت مثل مكة يوم بزغ فجر الإسلام بها وبه، دون أن يبارحني ذلك الشجن، أنا المفطور على حب مسجده، المفتون بمدينته، المأخوذ بطلعته التي هزّت قلوب المحبين على مدى 1447 عام، وفي ربيع الأول هذا أجدني أتماهى مع صوت حاج الماحي: ” أنا أحبه من صغير، بريدك يا البشير”، فيرتجف قلبي، ويثقل عليّ واجب الاتباع، لو بمقدوري، كأنني أنسل من بين زحمة الأيام لأقف بين يديه وأقول: لبيك يا رسول الله.
يمضي قطار العمر، مسرعاً، وأحياناً يتعثر على القضبان، مما يجعلني أشعر حقاً بأنني كبرت، ربما كبرت قليلاً، أو كثيراً لا أعرف، لكنني، وتلك مصدر حيرتي، من جيل الآباء الغرباء، ضحايا الحروب، وفق مكابدتي وإياهم، نعمل في أكثر من دوام خلال اليوم الواحد، دون أن نوفي بما علينا من واجبات متناسلة، وكأن البركة نُزعت منا. وقد كان الآباء في الماضي، يكسوهم ذلك الوقار في عقود البلاد الغابرة، سمها الزمن الجميل، يعودون عند منتصف الظهيرة، يخلعون عنهم رهق الوظيفة، وينعمون بالقيلولة، ثم يستيقظون، تلقائياً، متحفزين لتناول وجبة الغداء، ويشاركون في الأفراح والأتراح، ويكفلون عائلة كاملة دون تضجر، ويبتسمون للأقدار، يمشون بين الناس ببركة لا نفهم سرها، ثم يتفقدون الأهل والجيران، ويقتسمون معهم بعض المرح، وينعمون “بمشوار العصاري ورعشة الورد البراري”. تحت فراشهم يغمغم الراديو الترانزستور، في موجات لاسلكية، تؤزهم بالشجن أزًّا، وبعدها ينسدل شعر فاحم، شعر الحبيبة، أم الغوالي، سرعان ما يبدده ضوء القمر المطل لتوه.
وتحرص الزوجات، كحرصهن المتقن دوماً، على فرش الأسرّة في الحوش المرشوش، الوسيع، دون حاجة لفحيح مكيف الهواء أو ألواح الثلج، فقط تُنصب صينية مسطحة للمياه على مقربة، تغمرها النسمات الباردة من فوقها ومن تحتها، ويرتشف منها الأبناء والزوج، عريس كل ليلة، ماءً فراتا، بعد أن يأخذ عشاءه كثير الدسم، وتحتويه رائحة الطلح الحنون، فينام بخِرقة قصيرة، وعند وخزة بيولوجية تنتظم وفقها مجريات حياته، يتصدى لكل الخطوب بجلد، لا يعبأ أبداً براتبه، ولا الدولار الجمركي، ولا يقتطع منه، ولا يسأل عنه قبل أوانه، ولا يسأل الناس إلحافا.
لكن ذلك النوع العظيم من الآباء انقرض اليوم، وجئنا نحن، في حالة من اللهاث المستمر بلا جدوى، يتسرب منا الزمن سدى، وتموت بالغم أحلامنا الصغيرة، والكبيرة أيضاً. ولعلي هنا، أو هنالك، في العقد الرابع من عمري، وقد جاوزته بعامين تقريباً، لا أذكر، إذ كيف يتسنى لي عد كل تلك السنوات الهاربة، لكنني في الحقيقة، اليوم تحديداً لا أجد أعظم وأليق بي من دعاء أبي بكر الصديق، بعد أن بلغ أشُدّه في صحبة الرسول، وقد حفظ الله دعاءه في الكتاب ليلهمنا في سن النبوة، حفظ تلك الأمنيات ونشدانها، قال تعالى: “حتىٰ إِذا بلغَ أَشُدَّهُ وبَلغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزعنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وأَصْلِحْ لي في ذُريتي إِنِّي تُبْتُ إِليْكَ وإِنِّي مِن الْمُسلمين”إنه ذلك القرآن، الدعاء الذي يفتح أبواب العمر على مصاريع الشكر والتوبة، والخضوع لرب الكون، الرحمن الرحيم.
[ad_2]
Source
ذكرى ميلادي المنسيّة كلما اقتربت ذكرى مولدي، شعرت أنها محض رقم على جدار العمر، إ…
Leave a Comment


