[ad_1]
الكاميرا الحمراء.. نافذة الطفولة على السيرة النبوية
في أحد مواسم الحج القديمة، جلب لي جدي حسن الفكي إبراهيم الجمعابي، أطال الله في عمره، تلك الكاميرا الحمراء؛ نافذة سحرية تشعّ منها الصور الفوتوغرافية المضغوطة عبر عدسة صغيرة، فتبدو الأماكن المقدسة باذخة تحت وميض النيجاتيف. في ذلك العالم المصغّر الذي أسرني، رأيت مكة وعرفات والمدينة تتدلى ثريّاتها، ورأيت قبر الحبيب، وحين زرت طيبة قبل مدة وجدتها باردة وحنونة وحفية بالغرباء.
على المنظار كانت الجغرافيا مركوزة في حجارة ووجوه بالإحرام وأركان مقدسة. استولت المشاهد على خيالي، فبدأت أتراءى صور الصحابة الأوائل، والنبي محمد ﷺ يمشي بعباءة رمادية في عتمة حالكة نحو دار الأرقم. عشت معه تفاصيل ثلاثة عشر عاماً جسدت ولادة الإسلام الأولى، ومسيرة الألم في سبيل الدعوة إلى الله. رأيته يرعى الغنم، ويعمل في التجارة، ويتعبد في الغار، ثم ينذر عشيرته الأقربين. رأيته جاثياً في صحن الكعبة طوال الليل يصلي، ويتلو الآية الوحيدة التي نزلت في جوف الكعبة من سورة النساء،: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ”.، وهى وصية غالية للحكام والمحكومين، ومن ثم ذلك النبي حاملاً معول الحق يهدم به طواغيت الجهل والضلال.
لقد مُني بأكثر من فاجعة لا يطيق المرء العادي احتمالها: الرحيل الحزين لزوجته التي كانت سنده وأنس وحشته، ثم موت عمه الذي شكل ضلعاً آخر انكسر في حياته، إضافة إلى خذلان أحبّ البقاع إليه. لقد عاش يتيماً يتحدر الأسى في طريقه، لكنه كان قوياً، مصمماً على عبور ابتلاءات النبوة، يثبّت فؤاده القرآن بأجمل القصص.
رأيته وهو يحاول أن يخفف من تنكيل قومه، فينذر دفعتين من المهاجرين إلى الحبشة، ويهبهم الخلاص الأبدي، بينما ينافح قومه عن دين الآباء والأجداد. كان فهمهم قاصراً على سلطة زائلة، عاجزين عن استيعاب رسالة تتجاوز مستوى وعيهم وطموحاتهم، وهى الرسالة الخاتمة الخالدة.
ومن ذات الكاميرا رأيت الطائف تشيّعه بالحجارة، والنبي ﷺ ينخرط في نوبة دعاء منكسر لخالقه، حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين، وشُج رأس سيدنا زيد. كان دعاءً عجيباً: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي». لحظةً بدت فيها إنسانيته أكبر من حدود البشر، إذ خرج من معنى الإنسانية الضيقة ليمنحها للبشرية جمعاء، يا له من دعاء.
من هنا بدأت قصة الهجرة الثانية؛ إذ ترك النبي أحب البقاع إليه، ليمنح وطنه الجديد الحرمة نفسها، وليكون محط دولة النبوة، حين طلع البدر عليهم من ثنيات الوداع. مسافة شاقة على ظهر ناقة مأمورة، دمعة الصديق التي انحدرت في الغار، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعد سراقة، فراش سيدنا علي في بسالة نادرة، وغار ثور الذي شهد خفقات الخوف والأمل، ومغامرة الهجرة الثانية، وهو يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.
رأيت أيضاً خطبة الوداع في الجبل الطاهر، والنبي ﷺ يهب العالم مواثيق الإنسانية: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، ويوصينا بالنساء. كانت القافلة تسير، والشهداء يسقطون قبل الهجرة وبعدها، والكون كلّه يسبّح لربّ رحيم يمنحنا العافية والسلام، وقد اكتملت وصايته علينا بالنبوة المحمدية فكان الانعتاق.
وخلف منظار جدي رأيت كل شيء، وكانت تقف بجواري رابعة العدوية، وحاج الماحي، وعلي المبارك، وعبد اللطيف العوض وشيخ نورين، والقراء أجمعون، ومعهم الحبوبات والأحباب، والذين رحلوا من الأصدقاء، وأمي وكل المحبين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد ﷺ
عزمي عبد الرازق
[ad_2]
Source


