[ad_1]
منذ اندلاع الحرب الأخيرة في السودان تدهور القطاع الصحي الذي كان هشًا أصلًا قبل اندلاع الصراع، وتحوّلت المستشفيات إلى ساحات قتال أو مراكز طوارئ غير آمنة، وأصبح الأطباء الذين يفترض أن يكونوا صمام الأمان للمرضى والجرحى أهدافًا مباشرة للانتهاكات. ما يثير القلق أن الأطباء باتوا عرضة للاعتقال من قبل الجيش ومن قبل قوات الدعم السريع على حد سواء، فقط لأنهم التزموا بواجبهم المهني وأدوا قسمهم الطبي. وهنا يطرح سؤال مؤلم: هل أصبح من يعالج الأرواح يُعامل وكأنه يتعاون مع العدو؟
القسم الطبي الذي يؤديه الطبيب عند التخرج ليس مجرد بروتوكول شكلي، بل هو ميثاق أخلاقي وإنساني يلزم الطبيب أن يعالج الجميع دون تمييز بين صديق وعدو، صالح أو طالح. هذا الالتزام ليس خيارًا بل واجبًا، إذ إن جوهر مهنة الطب يقوم على إنقاذ الأرواح وتخفيف الألم بصرف النظر عن الانتماءات السياسية أو العسكرية. ومع ذلك، فإن الواقع القانوني والسياسي في السودان يعكس تعقيدًا كبيرًا يجعل هذا الواجب الإنساني محفوفًا بالمخاطر.
فالقانون الجنائي السوداني لسنة 1991 لا يتضمن نصًا صريحًا يجرم علاج المصابين حتى وإن كانوا متمردين إذا كان الهدف إنقاذ الحياة، غير أن بعض المواد المتعلقة بالجرائم الموجهة ضد الدولة، مثل المواد من (50 إلى 57)، تُستخدم أحيانًا لتأويل العلاج على أنه مساعدة للمتمردين، وهو ما يفتح الباب أمام اتهام الأطباء دون سند قانوني واضح. وفي المقابل فإن قانون المجلس الطبي السوداني لسنة 1993 يؤكد على واجب الأطباء في علاج الحالات الطارئة دون تمييز، حيث نصت المادة (35) على إلزام الطبيب بتقديم الرعاية الطبية لكل محتاج، وعدم الامتناع عن العلاج تحت أي ذريعة. بل إن الامتناع عن تقديم الإسعافات في حالة حرجة يمكن أن يعرّض الطبيب للمساءلة الجنائية بتهمة الإهمال الطبي. ويأتي الإعلان الدستوري لسنة 2019 ليؤكد أن الحق في الصحة هو حق أساسي لكل مواطن، وهو ما يعني أن حرمان الطبيب من أداء دوره يشكل انتهاكًا مباشرًا للحقوق الدستورية.
القانون السوداني يضع أيضًا ضوابط لأخلاقيات المهنة، فوفقًا لقانون الإثبات لسنة 1994 يجب على الأطباء المحافظة على سرية بيانات المريض إلا في حالات استثنائية مثل انتشار مرض معدٍ أو صدور أمر قضائي. هذه المنظومة التشريعية تعكس أن المشرع السوداني نفسه يقر بواجب الطبيب الإنساني، لكنه لم يُحصّن هذا الواجب بما يكفي أمام التأويلات الأمنية والسياسية التي غالبًا ما تُستخدم لقمع الحياد الطبي.
وعلى الصعيد الدولي فإن اتفاقيات جنيف التي صادق عليها السودان تلزم أطراف النزاع بحماية الأطباء وضمان حقهم في علاج الجرحى دون تمييز. المادة (3) المشتركة تنص بوضوح على أن الكوادر الطبية يجب أن تُعامل معاملة إنسانية وأن يُسمح لها بممارسة واجبها دون مضايقة. أي اعتقال أو تهديد للأطباء بسبب معالجتهم للجرحى يعد خرقًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني وانتهاكًا لمبدأ الحياد الطبي، الذي يضمن أن الطبيب لا يعمل لصالح أي طرف بل لصالح المريض وحده.
غير أن الإشكال يكمن في التعارض بين القوانين الوطنية والقانون الدولي، ففي حين أن القانون الدولي يفرض على السودان حماية الأطباء، فإن القوانين الداخلية، خصوصًا الجنائي لسنة 1991، قد تُستخدم لتجريم العلاج إذا اعتُبر دعمًا لجماعة مصنفة إرهابية أو متمردة. وهكذا يصبح الطبيب بين مطرقة الواجب الإنساني وسندان التهم الأمنية، فلو عالج المريض قد يُتهم بالتعاون، ولو امتنع عن العلاج قد يُتهم بالإهمال.
المسؤولية الجنائية للطبيب في هذا السياق تُبنى على عنصر القصد. فإذا كان هدف الطبيب إنقاذ الحياة فقط فإن ذلك يُعد دفاعًا قويًا له، أما إذا ثبت أنه قدم العلاج بغرض دعم العمليات العسكرية، فإن الأمر يأخذ منحى آخر. لكن الغالبية العظمى من الأطباء السودانيين إنما يعملون في ظروف قاهرة لإغاثة الأرواح، وليس لتعزيز الصراع.
الأخلاقيات الطبية في السودان، كما في العالم، تفرض على الطبيب عدم التمييز بين المرضى، وتحتم أن يكون القرار العلاجي قائمًا على المصلحة الصحية وحدها. كما تلزمه بتقديم الإسعافات الأولية في أي طارئ، ولو تعارض ذلك مع مصالحه الشخصية، فضلًا عن المحافظة على سرية المعلومات الطبية إلا في حالات استثنائية يحددها القانون. هذه المبادئ لا تمثل فقط إطارًا مهنيًا، بل تجسد روح الشريعة الإسلامية التي تجعل من حفظ النفس مقصدًا أساسيًا.
ما يحدث اليوم للأطباء السودانيين هو انتهاك مزدوج، إذ يُحرمون من ممارسة واجبهم الإنساني ويُعاقبون على تنفيذ القسم الذي التزموا به. هذه ليست قضية مهنية تخص الأطباء وحدهم، بل قضية رأي عام وإنسانية، لأن حماية الطبيب تعني حماية المريض والمجتمع بأسره. لذلك لا بد من إطلاق سراح جميع الأطباء المعتقلين فورًا، وعلى المشرع السوداني أن يوضح النصوص القانونية بما يضمن حماية الحياد الطبي وعدم تركها عرضة للتأويل. كما أن على المجتمع الدولي والمنظمات الطبية والحقوقية أن تتحمل مسؤولياتها في الضغط على أطراف النزاع لحماية الكوادر الصحية.
ولكي تتحول هذه القضية من مجرد مأساة متكررة إلى قضية رأي عام ضاغط، هناك خطوات عملية ينبغي اتخاذها: أولًا، تشكيل لجنة وطنية محايدة تضم أطباء وقانونيين وحقوقيين لرصد الانتهاكات التي يتعرض لها الأطباء وتوثيقها. ثانيًا، إطلاق حملة تضامن محلية ودولية بعنوان “الحياد الطبي ليس جريمة” لحشد الرأي العام ودفع المنظمات الحقوقية للضغط على أطراف النزاع. ثالثًا، العمل على تضمين نصوص واضحة في التشريعات السودانية تنص صراحة على أن تقديم العلاج الطبي لا يُعتبر بأي حال من الأحوال دعمًا للمتمردين، بل هو واجب إنساني محمي بالقانون. وأخيرًا، مطالبة مجلس الأمن والمنظمات الأممية بالتدخل العاجل لضمان حماية الأطباء في مناطق النزاع السودانية.
فالطبيب الذي يمد يده لإنقاذ جريح، أيًا كان انتماؤه، لا ينبغي أن يُعامل كخائن أو متعاون، بل يجب أن يُحترم كرمز للإنسانية، وصوت أخير للأمل في وطن أنهكته الحرب.
#أطلقو_سراح_الأطباء
#أطباء_السودان
#اوققو_هذا_العبث
[ad_2]
Source


