[ad_1]
البرهان واختبار النوايا : بين الحقيقة والوهم — الإعلام كسلاح الدولة الموازية
(الحلقة الرابعة)
لم يكن الإعلام في عهد الإنقاذ مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل كان جهازًا عصبيًا لمشروع التمكين يُصاغ فيه الواقع بما يخدم بقاء السلطة. منذ التسعينيات أدرك الإسلاميون أن السودانيين متدينون بطبعهم، فاستغلوا هذه العاطفة لبناء خطاب تعبوي يربط بين الدين والحرب والوطنية. برنامج “في ساحات الفداء” لم يكن مجرد إنتاج تلفزيوني بل حملة مستمرة لتصوير الحرب في الجنوب كجهاد مقدس، حيث رُسمت صورة المجاهد والشهيد بوصفها النموذج الأعلى، وغُرست معادلة تجعل الوطنية مرادفة للتضحية في سبيل مشروع النظام، والمعارضة خروجًا عن الدين والوطن معًا.
ولم يكن هذا مجرد خطاب عابر، بل استثمار منظم؛ فقد وُجّهت موارد مالية ضخمة من أموال الدولة لصناعة بنية إعلامية كاملة، تضمنت قنوات دينية مثل “طيبة” ومنصات بث وشركات إنتاج داخلية وخارجية، كان هدفها تكريس السرديات الأيديولوجية ومنحها غطاءً دينيًا وشعبيًا. هذه القنوات لم تُستخدم فقط للوعظ، بل صُممت لتكون أذرعًا سياسية بلباس ديني، تُعيد إنتاج خطاب السلطة وتمنحه شرعية رمزية حتى حين تضعف قبضتها.
إلى جانب ذلك، مارس النظام سياسة شراء الأقلام الصحفية، حيث جرى تجنيد بعض الكتّاب عبر الامتيازات والمناصب الاعتبارية ليكتبوا مقالات هجومية تشوه المعارضين وتخوّن من يقفون على الضفة الأخرى. الصحافة التي كان يُفترض أن تكون سلطة رقابية تحولت في كثير من الأحيان إلى سلاح بيد السلطة، تُستخدم لاغتيال الشخصية وإقصاء المخالفين. ولتكريس هذا النهج، وُضعت قوانين مقيدة للحريات مثل قانون الصحافة والمطبوعات الذي كان يُفصّل بحسب توصيات الأجهزة الأمنية وحدها، فصار بمقدور السلطة أن توقف الصحف وتصادر المطبوعات وتستدعي الصحفيين متى شاءت، بينما كان كل إعلان عن تعديل للقانون يثير مخاوف أهل المهنة من مزيد من القيود لا من توسيع هامش الحرية.
ومع سقوط النظام وتفكك المشهد الإعلامي التقليدي، لم يختفِ التمكين الإعلامي بل أعاد إنتاج نفسه في الفضاء الرقمي. الحرب الراهنة كشفت أن غرفًا إعلامية خارجية تدير منصات إلكترونية واسعة، تُبث عبرها رسائل مضللة ومنظمة لتصب الزيت على نار الحرب. هذه المنصات تُضخم الانتصارات الوهمية، تُشيطن الخصوم، وتبث خطاب الكراهية لتقسيم المجتمع. لم يعد الإعلام مجرد استوديو داخلي أو صحيفة مطبوعة، بل صار شبكة منسقة عابرة للحدود تعمل بالتمويل نفسه والعقلية نفسها، لكن بأدوات أكثر تأثيرًا. ما يحدث اليوم على وسائل التواصل ليس سوى امتداد لبرنامج “في ساحات الفداء” بروح رقمية، حيث المعركة على وعي الجمهور أشد ضراوة وأكثر خطورة.
إن سنوات الاستثمار الإعلامي والإنفاق على القنوات والمنابر والأقلام المشتراة أنتجت بيئة يرى فيها التنظيم أن الإعلام ليس لنقل الحقيقة بل لصناعتها، وأن الحشد الديني والإقصاء القانوني والتضليل الرقمي كلها أدوات مشروعة للبقاء. النتيجة أن الصراع السياسي والاجتماعي في السودان أعيد توصيفه مرارًا كصراع هوية وقيم مقدسة لا نزاعًا يمكن تسويته بالحوار، ما شرعن تكاليف بشرية هائلة وعمّق الانقسام المجتمعي.
اليوم، يقف البرهان أمام امتحان الإعلام كما يقف أمام امتحان الجيش والمال والقضاء. فالإصلاح الحقيقي لا يعني إعادة فتح الصحف أو إعادة هيكلة الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، بل يعني تفكيك هذا الجهاز العصبي الذي غذّى الدولة الموازية لعقود. يعني فصل التمويل العام عن الولاء الأيديولوجي، ووضع معايير استقلال وشفافية للقنوات والمنصات الدينية والعامة، وحماية التدين الشعبي من الاستغلال السياسي. والأهم مواجهة غرف الدعاية الرقمية التي تُدار من الخارج وتُستخدم لتأجيج الحرب، عبر كشفها وتحييد أثرها وفتح فضاء بديل قائم على المهنية والصدق.
إذا كان المال هو العمود الفقري لاقتصاد الدولة الموازية، فإن الإعلام التعبوي هو جهازها العصبي. وقد أثبتت التجربة أن الإنفاق السخي على المنابر واستغلال الدين في الخطاب السياسي قد ينجحان في كسب الوقت لكنهُما يراكمَان هشاشةً تنفجر عند أول اختبار. الطريق الجاد يبدأ بإعادة الإعلام إلى وظيفته العمومية: أن يكون حقًا للناس في المعرفة، لا وسيلة لصناعة الوهم، وأن يكون منبرًا للحقيقة لا أداة لتأبيد الحرب.
خاتمة السلسلة
تكشف الحلقات الأربع أن معركة السودان ليست مجرد صراع عسكري، بل صراع مع دولة موازية بناها الإسلاميون بأذرع متعددة: جيش مؤدلج، قضاء مخترق، اقتصاد ريعي قائم على النفط والذهب والدعم السريع، وإعلام تعبوي يخلط بين الحقيقة والوهم. هذه الأذرع صنعت منظومة تعيد إنتاج نفسها مع كل تحول، وجعلت الحرب بالنسبة لها تجارة مربحة لا مأساة وطنية. واليوم يقف البرهان أمام امتحان تاريخي: إما أن يقطع شرايين هذه الدولة الموازية ويعيد بناء مؤسسات وطنية حقيقية، أو يبقى أسيرها لتظل الحرب دائرة والدولة مختطفة والوطن مؤجلًا إلى إشعار آخر.
#شبكة_رصد_السودان
[ad_2]
Source


