[ad_1]
#أحمد_عثمان_جبريل
#يكتب….
(المؤتمر الوطني) .. صراع الأجنحة وعبث الزج بالمؤسسة العسكرية
“الناس في بلادي يسيرون إلى الأمام ووجوههم إلى الخلف” – الطيب صالح
وهكذا يبدو المشهد السياسي في السودان، وكأن عجلة التاريخ لا تعرف اتجاهًا واضحًا، تدور على ذات المحور وتلد ذات العطب.. في وطنٍ تعوّد أن يُسلب في وضح النهار، وأن تُغتصب أحلامه باسم الخلاص، عاد بعض أبناء السلطة القديمة ليتنازعوا خرائب البيت المحترق، بينما الوطن يئن تحت وطأة حرب ضروس، واقتصاد منهار، وشتات بلا أفق.
إنه صراع الظلال بين رجالٍ كانوا بالأمس ممسكي القرار، واليوم يتنازعون الشرعية على أنقاض حزب لم يُدفن تمامًا، ولم يُبعث من جديد.. صراع لا ينتمي إلى المستقبل، بل إلى ذاكرة قهرٍ لم تُصفَّ بعد.
وبينما الشعب مشغول بجرحه المفتوح، تتسابق أجنحة المؤتمر الوطني، كلٌ يسعى لإحياء مجده المندثر، ولو كان الثمن الوطن ذاته.
فبرغم تقادم عهد الإنقاذ، لم تهنأ الساحة السياسية السودانية بغيابها الكامل، إذ ظل المؤتمر الوطني حاضرًا، لا كحزب فاعل، بل كأشباح متنازعة على القيادة والرمزية والتاريخ.. وبدلًا من مراجعة نقدية حقيقية لتجربة انتهت بالسقوط، انصرف رموزه إلى صراع داخلي مرير يعكس ما يمكن تسميته بـ”معركة الورثة”.
لقد تحول الحزب الذي عكف الدكتور حسن الترابي على صناعته لسنوات واسقط به سلطة مدنية بعد ثورة شعبية، فما لبث بضع سنوات حتى تأمروا على عرابهم وشيخهم فأزاحوه بمذكرة (العشرة) الشهيرة، وما لبثوا إلا قليلا حتى سجنوه، ورويدا رويدا سقطوا في فخ السلطة والفساد فغاصوا بكل البلاد إلى القاع، وفي القاع بدات صراعات الأجنحة حتى جندلهم الديسمبريون في ثورة تُعَّلم، فتأمروا عليها بالدولة العميقة وأيادي المؤسسة العسكرية في انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، وبعدها أدخلوا البلاد في آتون حرب عبثية وبينما يسيرون بالبلاد نحو المجهول، يسيرون كذلك بحزبهم، فبداخله تحاك المؤامرات وتحاك الدسائس إذ يجري داخل المؤتمر الوطني، صراع أجنحة من نوع آخر، كل جماعة تريد ان تستأثر بما حمل، فهناك جناح نافع علي نافع – إبراهيم محمود – إبراهيم غندور: الأمنيون القدامى: هذا التيار يمثل الطيف “الأمني العتيق”، الذي برع لعقود في صناعة السلطة من خلف الستار.. فالدكتور نافع، رمز الحسم والتسلط في عهد الإنقاذ، عاد من عزلته، متحالفًا مع الدكتور إبراهيم غندور، الذي حاول تجميل وجه النظام في سنواته الأخيرة، والمهندس إبراهيم محمود، التنظيمي المحنّك.
هذا الجناح ظل يعيد إنتاج خطابٍ مألوف: نظريات المؤامرة، الهجوم على القوى المدنية، الدعوة لعودة “الدولة المختطفة”، متجاهلين أنهم كانوا من بين أبرز مختطفيها.. يحاولون التمدد عبر ما تبقى من علاقات في الأجهزة الأمنية، لكنهم يفتقرون إلى قاعدة شبابية أو مشروع سياسي إصلاحي جاذب .. وإذا كان لهم نفوذ، فهو آيل للسقوط لأنه يعتمد على ماضٍ فقد صلاحيته، وعلى أدوات لم تعد صالحة للعمل في زمن انكشفت فيه كل الأقنعة.
أما جناح الدهاء السياسي وظلال الجنائية،
فهذا يقوده علي كرتي، وزير الخارجية السابق، وأحمد هارون، أحد أبرز رجال الدولة الأمنية والمطلوب دوليًا، فهو الأكثر تنظيمًا وتحركًا على الأرض، لكنه أيضًا الأخطر.. لا يخفون طموحهم في إعادة الحزب بواجهات جديدة، ولا يترددون في استثمار الانقسامات الوطنية لصالح عودتهم..فتحركات هذا الجناح تعبّر عن عقلية “الدولة داخل الدولة”، فهم يسعون للزج بالمؤسسة العسكرية في صراعهم السياسي، إما عبر تحالفات مصلحية، أو عبر دعم محاور داخلية ذات صبغة أيديولوجية.
خطابهم مشبع بالتعبئة الدينية، وبدعوات لاستعادة “التمكين المقدّس”، وكأن السودان كُتب عليه أن يعيش في ظلال فكرٍ لا يعرف التوبة.. لكن على الرغم من نفوذهم، فإن رفض المؤسسة العسكرية لتسييسها، وتململ الشارع من استغلال الدين في الحكم، قد يشكلان كابحًا حقيقيًا لطموحاتهم.
أما الجناح الثالث، الذي يقوده المهندس أسامة عبدالله، فهو الأخف ظهورًا، لكنه الأوسع انتشارًا وسط فئة الشباب.. يستلهمون تجربة الدولة التنموية أكثر من الدولة الأيديولوجية، ويروّجون لفكرة “الإصلاح من الداخل”، مع وعودٍ ببناء حزب جديد على أنقاض القديم، دون أن يتنصلوا تمامًا من إرثه.. هذا التيار
يمتلك قدرة على التسلل إلى الفضاء الرقمي، ويجيد خطاب الإدارة والتنمية، لكنه مكشوف تعريه تجاذبات الهوية ذلك لأنه يقف على حافة التناقض: فهل هو قطيعة مع ماضي الحزب، أم محاولة لطلائه بألوان العصر؟ .. وإن كان أكثر التيارات تحفّظًا في علاقته بالمؤسسة العسكرية، إلا أن صمته لا يُعدّ براءة مطلقة، بل مناورة قد تنقلب إلى فعلٍ سياسي عندما تتبدّل موازين القوى.
ولكن من بين ذلك يبرز السؤال الحتمي : أين تقف مؤسسة الجيش من ذلك في خضم مرمى هذه الأطماع الحزبية.
إن ما يجمع بين هذه الأجنحة، هو توافقها الخفي على توريط القوات المسلحة في معارك لا تعنيها.. فكل جناح يرى في الجيش “درعًا قابلًا للتوظيف”، لا مؤسسة وطنية مستقلة.. هذا الفهم الخطير يُمثّل عودة إلى ذات الذهنية التي أدخلت البلاد في الحروب والفوضى الخلاقة والانقلابات والانقسامات.
إلا أنه بدأ واضحا وجليا أن المؤسسة العسكرية – رغم كل ما تواجهه – بدأت تدرك أن حيادها هو رأس مالها الأخير، وأن الاندماج في صراعات كهذه لن يعيد البلاد إلى حكم، بل سيدخلها إلى فوضى لا قرار لها.
لذلك نقول: الوطن لا يُدار بالأنقاض.. إذ إن صراع الأجنحة داخل المؤتمر الوطني ليس إلا انعكاسًا مأساويًا لنهاية مشروع لم يمتلك القدرة على التجدد، لأنه بُني على احتكار السلطة لا على تداولها، وعلى إقصاء الآخر لا على التعايش معه.. وإذا كان بعض قادة الحزب السابق يظنون أن الزمان يعيد نفسه، فعليهم أن يقرأوا التاريخ جيدًا: فالأوطان التي تُنتهك مرتين، لا تغفر في الثالثة.
العبارة التي خلدها التاريخ على لسان عبقري الرواية العربية الطيب صالح، حينما تساءل ذات مرة:
“من أين جاء هؤلاء؟ بل من هم هؤلاء؟”
يجعلنا نتساءل نحن كذلك اليوم:
إلى أين سيذهب هؤلاء بالبلاد؟ ..
وهل سيتعلمون شيئًا قبل أن يفوت الأوان؟
إنا لله ياخ.. الله غالب.
[ad_2]
Source


