[ad_1]
البرهان واختبار النوايا : من نفط التمكين إلى ذهب الحرب — اقتصاد الدولة الموازية
(الحلقة الثالثة)
لم يكن التمكين مشروعًا سياسيًا محضًا بل كان منظومة متكاملة أدرك المتأسلمون منذ وصولهم إلى السلطة عام 1989 أن بقاءهم لا يتحقق بالخطاب الأيديولوجي ولا بالقبضة الأمنية فقط، بل يحتاج إلى قاعدة مالية واسعة تحوّل موارد الدولة إلى ريع حزبي وتخلق شبكة مصالح قادرة على حماية المشروع حتى في أحلك الظروف. ومن هنا بدأ النفط يشكل نقطة التحول الكبرى في أواخر التسعينيات، فبدل أن يكون ثروة وطنية لبناء البنية التحتية وتنويع الاقتصاد تحوّل إلى ميزانية حزبية مغلقة. فوزارة النفط لم تُدار كمؤسسة وطنية بل كخزينة سرية للتنظيم، وعوض الجاز كان الوجه الأبرز في هذه المرحلة لكنه لم يكن وحده، بل ضمن منظومة أوسع من وزراء ومصرفيين ومسؤولين أمنيين، جميعهم ربطوا العائدات النفطية بعجلة الولاء. بالتوازي صعدت البنوك الإسلامية مثل فيصل الإسلامي والبركة لتعمل كقنوات تفضيلية للتمويل تمنح القروض والتسهيلات على أساس الولاء لا الكفاءة، فيما كان بنك أمدرمان الوطني الذراع المالية الأقوى للمؤسسة العسكرية، ما أوجد ازدواجية خطيرة بين الدولة الرسمية والدولة الموازية، فصار النفط أداة تمكين لا مورداً وطنياً.
بعد انفصال الجنوب عام 2011 وفقدان السودان لمعظم موارده النفطية لم يتراجع التمكين بل وجد في الذهب بديلاً استراتيجياً جديداً. فبدل أن تدخل العائدات إلى الموازنة العامة سيطرت شبكات الحزب والأمن على المناجم وسلاسل التسويق، وتحول الذهب إلى صندوق تمويل حزبي وأمني يشتري الولاءات ويغذي المليشيات. وفي هذه المرحلة تعمق اقتصاد الظل، حيث ظهر الصف الثاني والثالث من رجال الأعمال والوسطاء ومديري الشركات غير المعروفين في العلن لكنهم كانوا الأعصاب الحقيقية التي تحرك الموارد وتعيد تموضع النفوذ مع كل تغيير سياسي.
وفي قلب هذه التحولات برزت قوات الدعم السريع كأحد أخطر إفرازات التمكين. البداية كانت في عام 2013 حين جرى إلحاق القوة التي شكّلها محمد حمدان دقلو (حميدتي) بجهاز الأمن والمخابرات الوطني، لتُستخدم كقوة ميدانية ضاربة في مواجهة التمرد بدارفور وكردفان والنيل الأزرق. هذه الخطوة وفرت للنظام ذراعًا عسكرية إضافية خارج الجيش النظامي لكنها بقيت في البداية تحت غطاء الجهاز الأمني. غير أن الطفرة الحقيقية جاءت مع إصدار قانون قوات الدعم السريع لسنة 2017 الذي نصّ على تبعيتها المباشرة لرئيس الجمهورية مع بقائها جزءًا من القوات المسلحة. وبهذا التشريع تمتعت القوات بمستوى غير مسبوق من الاستقلالية، وصارت جيشًا موازيًا يتحرك بأوامر الرئاسة بعيدًا عن قيادة الجيش التقليدية. عند عرض القانون على المجلس الوطني، قال الفريق أحمد إمام التهامي رئيس لجنة الأمن والدفاع آنذاك إن قوات الدعم السريع كان لها دور واضح في حفظ الأمن والاستقرار في مناطق العمليات ضد التمرد وخاصة في ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وأكد على ضرورة تنظيم وضعها وعلاقتها بالقوات المسلحة والأجهزة النظامية الأخرى في ظل المتغيرات السياسية ومخرجات الحوار الوطني. لكن خلف هذه اللغة الرسمية كانت الحقيقة أوضح: فالقوة التي صُممت لتكون أداة أمنية مرنة سرعان ما تحولت إلى كيان مستقل له سلاحه وموارده. ومع منح حميدتي امتيازات السيطرة على مناجم الذهب، لم يعد الدعم السريع مجرد ذراع ضارب بل أصبح إمبراطورية مالية عسكرية تمتلك مصادر تمويل خاصة وتعمل كجيش موازٍ للدولة نفسها. هذه الاستقلالية القانونية والمالية هي التي سمحت لحميدتي لاحقًا بالتحرك منفصلًا عن المؤسسة العسكرية التقليدية والانقلاب على النظام الذي أنشأه وحماه. وهكذا تجلت مفارقة التمكين: قوة أُنشئت لحماية المشروع الإسلاموي تحولت مع الزمن إلى الخطر الأكبر على بقاءه.
اندلاع الحرب في 2023 منح هذه الشبكات فرصة جديدة، فالحرب بطبيعتها ترفع قيمة السيولة غير الرسمية وتقلل كلفة الرقابة المؤسسية وتفتح المجال أمام اقتصاد الطوارئ الذي تديره شبكات ظل بارعة. الذهب تحوّل إلى الوقود الأساسي للصراع، وبالنسبة للمتأسلمين فإن استمرار الحرب يعني مزيداً من الموارد خارج الموازنة وقرارات أقل شفافية وفرصاً أوسع لإعادة التموضع في مؤسسات الدولة. في هذه الأجواء برزت بورتسودان كعاصمة إدارية مؤقتة لكنها تحولت إلى صورة صريحة لاقتصاد الغنائم حيث العقود تُدار بالترضيات والمساعدات تمر عبر شبكات النفوذ لا مؤسسات الدولة، والفساد يضرب مفاصل الإدارة في ظل غياب البرلمان والأجهزة الرقابية. أما وزارة المالية فقد أصبحت عقدة سياسية بعد أن وضع جبريل إبراهيم استحقاقات اتفاق جوبا في صلب الجدل، فخصومه يرونه ضامناً لتدفقات تخدم حركته وحلفاءه أكثر مما تخدم الدولة، بينما يؤكد هو أنها التزامات قانونية، والنتيجة أن المالية لم تعد تدار كمؤسسة وطنية بل كساحة توزيع نفوذ سياسي في ظل انهيار اقتصادي شامل.
هكذا يتضح أن التمكين الاقتصادي مر بمراحل متعاقبة، فالنفط في التسعينيات صنع خزينة حزبية مغلقة، والذهب بعد الانفصال رسخ اقتصاد الظل، والدعم السريع جسّد اندماج المال والسلاح قبل أن ينقلب على صانعيه، والحرب الراهنة فتحت الباب أمام إعادة إنتاج الشبكات القديمة. في كل هذه المراحل كان المال هو العمود الفقري للسلطة. واليوم يقف البرهان أمام امتحان المال، فإما أن يجرؤ على تفكيك اقتصاد الظل وإخضاع الذهب للموازنة وتحجيم نفوذ البنوك المرتبطة بالولاء وإعادة وزارة المالية إلى مسارها الوطني، أو يكتفي بخطوات شكلية تبقي الدولة أسيرة لشبكات ترى في الحرب تجارة مربحة لا مأساة وطنية. فإذا لم يُطفئ محركات المال التي غذت التمكين والحرب معاً فلن يكون لأي إصلاح سياسي أو عسكري معنى، وسيظل السودان أسير دولة الظل التي تعيد إنتاج نفسها كل مرة بوجه جديد.
[ad_2]
Source


