[ad_1]
#أحمد_عثمان_جبريل
#يكتب…
البرهان وظل (الإطاري مقطوع الطاري).. سردية السلاح ومكر التاريخ
بينما يتطاير الغبار من فوق الخرطوم، ويُعاد ترتيب خرائط الولاء داخل المؤسسة العسكرية، يعود الاتفاق الإطاري إلى الواجهة من جديد، لا عبر تسوية مدنية، بل من فوهة بندقية لإنقاذ التسوية، وبمباركة من الجنرال عبد الفتاح البرهان نفسه..
في هذا المقال، نحاول ان نرصد التحولات الجذرية التي تحاول ان تعصف بالجيش السوداني، ونحلل كيف تحولت “الهيكلة” إلى مسرح لإعادة تدوير مشروع سياسي (الإطاري) والذي من المفارقات أنه سبق وان قُوبل بالرفض ذات مرة، وسفكت دماء غزيرة حتى لا يصبح واقعا مستأصلا لهم، وها هي الحرب التي اشعلت من أجله أصبحت اليوم طريقه الوحيد إلى التنفيذ.
في ديسمبر من العام 2022، وُلد الاتفاق الإطاري كما تولد الأحلام في الليل الطويل: هشًّا، مرتبكًا، ومحاصرًا منذ لحظته الأولى.. كان أشبه برسالة حبٍّ أُرسلت في زمن القطيعة، فلم تصل، أو وصلت متأخرة، وقد تغيّر عنوان القلب والعقل والسلطة.
بينما رآه البعض بارقة أمل للعبور إلى مدنية مأمولة، رآه الإسلاميون ــ وقد اعتادوا السير خلف الرايات السوداء ــ خنجرًا مغروسًا في قلب المشروع الذي بنوه على مدى ثلاثين عامًا. أطلقوا عليه باستخفاف ساخر “الإطاري مقطوع الطاري”، لأنه ـ في رؤيتهم ــ جاء مفروضًا، لا شعبيًا، مؤقتًا لا دائمًا، ومُعدًّا خصيصًا لإقصائهم من مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش.
لم يكن الإطاري وثيقة توافق، بل مرآة كاشفة لانقسامات سودانية عميقة: بين المدني والعسكري، بين التكنوقراطي والعقائدي، بين من يريد وطنًا للجميع، ومن لا يرى الوطن إلا في صورته الأيديولوجية
في قلب الخراب السوداني، حيث يتعانق دخان البارود مع دعوات الأمهات المنتظرات أبناءً غيّبتهم المتاريس، يعود الجنرال عبد الفتاح البرهان، لا متراجعًا ولا منتصرًا، بل كمن يجرّ خلفه شبح الاتفاق الإطاري الذي رفضه بالأمس، ويسير به اليوم في ردهات المؤسسة العسكرية، متوشحًا بدثارٍ من “الهيكلة”، كأنما يحاول إصلاح ما انكسر وهو ممسك بالمطرقة ذاتها التي حطّم بها كل شيء.
قال نيتشه: “من يقاتل الوحوش عليه أن يحذر ألا يتحول هو نفسه إلى وحش”.. يبدو أن البرهان، وقد أطال التحديق في فوضى الحرب، قد تغير.. لم يعد ذاك الجنرال الذي وقف أمام كاميرات العالم واعدًا بفترة انتقالية، إنه اليوم مهندس عملية جراحية حساسة داخل جسد القوات المسلحة، يزيل أطرافًا متورمة، ويزرع أخرى تحت مسمّى “الهيكلة”، بينما الوطن ينزف من كلتا الرئتين.
ليست التغييرات الأخيرة في قيادة الجيش، ولا إحالات التقاعد، مجرد قرارات إدارية.. بل هي ملامح مشروع سياسي مكتوم، فيه رائحة اتفاق إطاري جرى سفك الدماء لرفضه، ثم أعيد ترتيبه على مائدة النار والدخان. “المبادئ لا تتغير، لكن الرجال قد يبدّلون جلودهم”، كما كتب غارسيا ماركيز، لكن في حالة السودان، يبدو أن المبادئ والرجال قد تآكلا معًا تحت عجلات دبابة.
الإسلاميون، أولئك الذين افترشوا أرض المعركة بجنودهم، واعتبروا الحرب فرصة لتسلق جدران السلطة مجددًا، يرون في هذا الاتجاه انقلابًا ناعمًا عليهم.. هم الذين سخروا منه حينما نعتوه (بالاطاري مقطوع الطاري ) وصرخوا بـ”لا” للاتفاق الإطاري، وها هو يُعاد إليهم لكن في زي عسكري، لا مدني.. كم هو ساخر هذا التاريخ، حين يضع ذات الوثيقة في يد من رفضها، لكن بعد أن جُبلت بالحرب والدم.
كتب الفيلسوف هيغل ذات مره : “ما نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئًا من التاريخ”.. والسودان يثبت صحة هذه المقولة بألم بالغ، كل أزمة تمرّ، تحمل في طيّاتها بذور تكرارها، لأن النخب لا تراجع النفس، ولا تتواضع أمام دروس الانكسار.. البرهان، في مظهره الجديد، كأنه يعيد رسم ذات المشهد، مستبدلًا الوجوه دون تغيير الجوهر.
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا الآن: إلى أين يمضي الجنرال؟ وهل تسمح له المتغيرات الإقليمية والدولية أن يُعيد تشكيل الدولة على مقاسه العسكري، أم على مقاس تسويه لصالح المدنية التي كنس لأجلها الشعب السوداني نظاما باطشا.. بينما دماء الشباب تقطر من جدران المستشفيات والمقابر الجماعية في دارفور والخرطوم؟
ربما لا يملك البرهان ترف التأمل الفلسفي الآن، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل أن “من يزرع السلطة في فوضى الحرب، يجني دويلات لا دولة”.. وهذا تحديدًا ما تخشاه قوى الداخل والخارج؛ إن استمرار تحويل الجيش إلى أداة سياسية تحت لافتة “الإصلاح” قد يُفجّر ما تبقى من وحدة المؤسسة العسكرية، خصوصا مع رفض بعض الحركات المسلحة لتلك التغييرات، باعتبارها نكوصًا عن اتفاق جوبا للسلام.
وفي الوقت ذاته، فإن الإسلاميين – رغم تحالفهم الميداني مع الجيش – قد يشعرون بالخيانة إذا وجدوا أن البرهان قرر إغلاق باب العودة إلى السلطة من بوابة الحرب. “لا يوجد انتقام أبلغ من أن تُحقق حلم خصمك بطريقتك الخاصة”.. هكذا كتب ميلان كونديرا، وقد يكون هذا هو الانتقام الصامت الذي ينفذه البرهان الآن ضد الخصوم.
في بلدٍ أرهقته الانقلابات والتحالفات الهشة، يبدو أن المشهد يتحرك لا بفعل المبادئ، بل تحت وطأة الضرورة. أما البرهان، ففي سيره بين ظلال الاتفاق الإطاري وحرائق الحرب، عليه أن يدرك أن التاريخ لا يمنح فرصًا كثيرة لتعديل المسار.
دعونا هنا نصور مشهدا صامتا ولكن حين يتكلم فيه الظل:
الآن يمكنك ان تتخيّل البرهان واقفًا على أنقاض القيادة العامة، في هدوء ليلٍ أضناه الصمت، ووراءه ظلّ الاتفاق الإطاري، لا يتحرك لكنه يزحف كحقيقة قاسية.
الظل يسأله:
“لِمَ رفضتني حين كنت نقيًا، ثم قبلتني حين تلطخت؟”
فيرد البرهان: “لأني لم أكن مستعدًا وقتها.. أما الآن، فكل شيء قابل للابتلاع، حتى الماضي”.
“في زمن الحرب، الحقيقة تذهب للاستحمام”، هكذا كتب برتولد بريخت، لكن في السودان، الحقيقة نُحرت على مرأى الجميع، وأُعيد تشكيل جثتها لتُصبح مرجعًا في دفتر الانتصارات الخادعة.. إنا لله ياخ.. الله غالب.
[ad_2]
Source


