[ad_1]
البرهان وإعادة تشكيل المؤسسة العسكرية: قراءة في الإحالات والترقيات الأخيرة
بقلم: #غزالي_آدم_موسى
في لحظات التحولات الكبرى، لا تكون القرارات العسكرية مجرد إجراءات إدارية روتينية، بل هي في جوهرها انعكاس لموازين القوى وتحولات الميدان السياسي والعسكري معًا. قرار الفريق أول عبد الفتاح البرهان الأخير بإجراء إحالات وترقيات واسعة في صفوف القوات المسلحة لا يمكن قراءته على أنه حركة تقليدية في “شجرة الجيش”، بل يتجاوز ذلك ليشكل محاولة جادة لإعادة صياغة بنية المؤسسة العسكرية بما يخدم المرحلة الحرجة التي تعيشها البلاد.
منذ اندلاع الحرب الراهنة بين الجيش وقوات الدعم السريع، ظل سؤال القيادة العسكرية وشرعيتها الداخلية على رأس التحديات التي تواجه البرهان. فالجيش السوداني، رغم وحدته الظاهرية، يعاني من انقسامات داخلية بين أجيال مختلفة من الضباط، بعضها ظل مهمشًا بفعل تمدد الدعم السريع ونفوذه في مؤسسات الدولة قبل الحرب، وبعضها الآخر ظل يترقب لحظة استعادة المبادرة التاريخية للمؤسسة العسكرية. هنا يبرز القرار الأخير كأداة لإعادة ترتيب البيت من الداخل وضبط الإيقاع بما يعيد الثقة إلى صفوف الضباط والجنود.
الإحالات إلى التقاعد لم تستهدف فقط من بلغوا السن القانونية أو أنهوا خدمتهم، بل شملت أيضًا ضباطًا ارتبطت أسماؤهم بمواقف أو شبكات داخلية لم تعد القيادة ترى أنها تخدم المرحلة. بمعنى آخر، فإن عملية “التصفية الناعمة” هذه لا يمكن فصلها عن رغبة البرهان في تحييد أي مراكز نفوذ محتملة قد تنازعه القرار أو تفتح الباب لتصدعات إضافية في جدار القيادة. ومن هنا يبرز البعد السياسي الخفي للخطوة، فالمؤسسة العسكرية في السودان ليست مجرد جهاز دفاعي، بل فاعل مركزي في إنتاج السلطة وحراستها.
أما الترقيات فجاءت بمثابة ضخ دماء جديدة في شرايين القيادة، حيث صعدت أسماء من جيل أصغر وأكثر التصاقًا بميدان الحرب الحالية. هؤلاء الضباط هم الذين يشكلون اليوم “الكتلة الصلبة” في قيادة العمليات على الأرض، ويُتوقع أن يكونوا أكثر ولاءً للبرهان، ليس فقط بوصفه القائد العام، بل أيضًا باعتباره من أتاح لهم موقعًا متقدمًا في لحظة تاريخية فارقة. هذا البعد الشخصي للولاء هو ما يراهن عليه البرهان لتعزيز قبضته في ظل حرب مفتوحة لم تتضح مآلاتها بعد.
لكن القراءة الأعمق تقود إلى ما وراء الأشخاص، أي إلى طبيعة المؤسسة ذاتها. فالجيش السوداني، الذي عاش لعقود تحت تأثير التحالفات السياسية والإيديولوجية المختلفة، يجد نفسه اليوم في مواجهة مباشرة مع خطر تفكك الدولة. ومن ثم فإن إعادة هيكلته الداخلية تعكس محاولة لإعادة تعريف الجيش نفسه كحارس وحيد لبقاء الدولة، بعد أن فقدت القوى السياسية المدنية والعسكرية الأخرى أي قدرة على لعب هذا الدور. بهذا المعنى، فإن القرارات الأخيرة هي إعلان ضمني بأن البرهان يرى نفسه والجيش معًا كآخر جدار يحول دون انهيار البلاد بالكامل.
مع ذلك، لا يمكن إغفال أن هذه الخطوة تحمل أيضًا مخاطر جدية. فالإقصاء المتسارع لضباط ذوي خبرة أو نفوذ تاريخي قد يخلق جيوبًا من السخط المكتوم داخل المؤسسة، وهو أمر لطالما كان خطرًا على استقرار الجيوش في العالم الثالث. كما أن ترقية ضباط أصغر سنًا وأقل خبرة إلى مواقع عليا قد تمنح البرهان ولاءً شخصيًا على المدى القصير، لكنها في المدى الطويل قد تضعف التماسك المهني والتراتبية الصارمة التي تُبقي المؤسسة العسكرية على قيد الحياة.
إلى جانب ذلك، فإن هذه القرارات تأتي في لحظة حساسة من الحرب، حيث يتطلب الميدان قدرًا أكبر من المرونة والكفاءة. فإذا تبين لاحقًا أن الولاء السياسي كان هو المعيار الغالب على الكفاءة العسكرية، فإن ذلك قد ينعكس سلبًا على قدرة الجيش في حسم المعركة لصالحه. هنا يطل السؤال الأهم: هل يوازن البرهان بين الاعتبارات الميدانية الصرفة والحسابات السياسية الداخلية، أم أن كفة البقاء في السلطة هي التي سترجح دومًا؟
من زاوية أخرى، يمكن القول إن القرارات الأخيرة ليست معزولة عن رسائل موجهة للخارج أيضًا. فالمجتمع الدولي يراقب ما يجري داخل الجيش السوداني عن كثب، والبرهان بحاجة لإظهار أنه ما يزال قادرًا على فرض السيطرة والانضباط داخل مؤسسته، وأن الجيش لم يتفتت تحت ضغط الحرب. بهذا المعنى، فإن عملية الإحلال والإبدال تحمل دلالة سياسية موجهة نحو العواصم الإقليمية والدولية بقدر ما هي موجهة نحو الداخل.
في النهاية، يمكن القول إن قرار الإحالات والترقيات الأخير يعكس محاولة متوازنة بين إعادة بناء الشرعية الداخلية للجيش، وضمان ولاء القيادة الوسطى والصاعدة، وإرسال رسالة صمود إلى الداخل والخارج في آن واحد. لكنه في الوقت نفسه مقامرة عالية الكلفة؛ إذ إن أي خلل في التوازن بين الولاء والكفاءة، أو بين الإقصاء والاحتواء، قد يدفع المؤسسة العسكرية نفسها إلى مزيد من الانقسام، وهو ما قد يسرّع بانهيار ما تبقى من الدولة.
بهذا المعنى، فإن قراءة القرارات الأخيرة لا تنفصل عن سؤال المستقبل: هل ينجح البرهان في تحويل الجيش إلى أداة لإعادة بناء الدولة، أم أنه يعيد إنتاج نموذج مأزوم من الجيوش المسيسة التي تستهلك نفسها في صراعات داخلية لا تنتهي؟ ما يمكن الجزم به أن السودان يقف أمام لحظة مفصلية، وأن ما جرى لم يكن مجرد “ترقيات وإحالات”، بل رسم لخطوط معركة أوسع تتجاوز حدود الميدان العسكري إلى جوهر الصراع على الدولة نفسها.
[ad_2]
Source


