عماد الدين ميرغني يكتب : عندما ضاع الإنسان ضاع السودان !! الجزء الأول
مقدمة:
نشر الكاتب البرازيلي باولو كويلو في إحدى مدوناته قائلاً:
“كان الأبُ يحاول قراءةَ الجريدة، لكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته، وحين تعب الأبُ مِن ابنه قام بقطع جزء من الصحيفة كان يحتوي على خريطة العالم، ثم مزّقها إلى قِطع صغيرة وقدّمها لابنه طالباً منه إعادة تجميعها، ثم عاد لقراءة صحيفته، ظناً منه أن الطفل سيبقى مشغولاً بقيةَ اليوم، إلا أنه سرعان ما عاد إليه وقد أعاد ترتيبَ الخريطة، فتساءل الأب مذهولاً: هل كانت أمُّك تعلمك الجغرافيا؟ ردَّ الطفل قائلاً: لا، لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ بناء الإنسان، أعدتُ بناءَ العالم”.
العبارة الأخيرة التي قالها الطفل بحسب رواية باولو كويلو “عندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم” كانت عفوية، لكنها من أكثر المعاني عمقاً بالنسبة لكل من يتناولها في مقصده عن الإنسان الذي يعيش في هذا الكوكب.
أما في السودان، فما يزال المشهد يجعل موقع الإنسان مبني للمجهول، وهنا يطرح السؤال نفسه أين موقع الإنسان في السودان؟.
بقلم : عماد الدين ميرغني
عندما نتحدث عن السودان (بعد إنفصال جنوب السودان في عام 2011) فإننا نتحدث عن دولة مساحتها 1.8 مليون كيلومتر مربع، تحدها جغرافياً من الشمال مصر وليبيا في شمالها الغربي، وتشاد غربها، وجنوبها الغربي أفريقيا الوسطى، وفي جنوبها جنوب السودان وشرقاً تحدها كل من أثيوبيا وأرتريا، وتملك ساحلاً على البحر الأحمر بمقدار 700 كيلومتر، وهنا يكمن تميز موقع السودان على ساحل البحر الأحمر، وبجوار دول القرن الأفريقي، وبين خط الشمال الأفريقي وخط الغرب الأفريقي وخط الجنوب الأفريقي.
وفي داخل السودان، تمتد الأنهار من منابعها خارج السودان، من الشرق النيل الأزرق القادم من أثيوبيا بمقدار 800 كيلومتر وصولاً للخرطوم، والنيل الأبيض القادم من الجنوب كذلك بحوالي 800 كيلومتر وصولاً للخرطوم، وشمالاً ومن مقرن النيلين يمتد نهر النيل وصولاً إلى الحدود مع مصر بحوالي 1200 كيلومتر، مع وجود نهر عطبرة القادم من منبعه بالهضبة الأثيوبية ويصب في نهر النيل بامتداد يصل إلى حوالي 700 كيلومتر من الحدود السودانية الأثيوبية.
الكل يعلم أن السودان داخل أرضه غني بالموارد. فعلى مستوى الزراعة، فإن المساحة الصالحة للزراعة تُقدر بحوالي 1.12 مليون كليومتر مربع بنسبة 60% من مساحة السودان الكلية، وتشير آخر التقديرات إلى أن المساحة المُستَغلّة للزراعة لا تتخطى 20% من إجمالي المساحة الصالحة للزراعة، ينتج منها الخضروات والفواكه والحبوب والقطن (قصير التيلة وطويل التيلة) والصمغ العربي والسمسم والسكر وغيرها من المحاصيل.
أما على مستوى الثروة الحيوانية فآخر التقديرات أشارت إلى امتلاك السودان لأكثر من 105 مليون رأس من الأبقار والماعز والأغنام والجُمال، وتمثل نسبة 11% من الناتج المحلي في السودان. بجانب وجود الثروة السمكية على مستوى الأنهار الموجودة في السودان وفي البحر الأحمر بأرقام تصل إلى إنتاج 110 ألف طن سنوياً يستطيع السودان تحقيقها، بينما الإنتاج الفعلي لم يتجاوز 10 آلاف طن فقط في آخر 6 سنوات.
وعلى مستوى الثروات المعدنية وثروات الباطن، فإن السودان يملك نسبة 9% من مساحته (بحوالي 170 ألف كيلومتر مربع) مُستَغلّة لإنتاج الذهب، هذا بجانب نسبة 16% من مساحة السودان كمناطق تم استكشافها تحتوي على الذهب (ومعلوم أن آخر الأرقام التي تتعلق بإنتاج الذهب وصلت إلى إنتاج 80 طن في آخر عام). هذا بجانب وجود معادن أخرى تساهم في تنمية الاقتصاد مثل السليكون والكبريت والألمونيوم والغرانيت والحديد واليورانيوم تم استشكافها في السودان.
وعلى الرغم من تراجع إنتاج البترول بعد انفصال السودان، إلى أن تعدين الذهب في السودان كان هو المصدر البديل لإنتاج النفط، حيث تراجع إنتاج السودان من 500 ألف برميل في اليوم إلى 70 برميل في اليوم، وبات السودان يعتمد على رسوم نقل النفط من الجنوب إلى الشمال.
هذه الأرقام هي جزء من الكثير من الأرقام التفصيلية التي تشير إلى وجود موارد بكميات مهولة في الأراضي السودانية الممتدة والشاسعة والمترامية الأطراف. إلا أن واقع السودان الحالي يعكس حجم الكوارث التي تعيشها البلاد من جراء الحرب الحالية والتي اندلعت بتاريخ 15 أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع في قلب الخرطوم، عِلماً بأن هذه الحرب ليست الحرب الأولى في السودان، حيث عانى السودان من ويلات الحروب لعقود طويلة منذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة، وعلى إثرها انفصل جنوب السودان بعد اتفاقية السلام التي تم التوقيع عليها عام 2005 بين حكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان.
ولا أحد ينسى تلك الجُمل التي قِيلت في شأن السودان وموارده واقتصاده، مثل جُملة “سلّة غذاء العالم” وجملة “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع” في إشارة إلى إكتفاء السودان ذاتياً بالموارد التي يملكها.
لكن ما لا يُذكر في السودان عندما يكون الحديث عن مميزاته التي تساهم في تنمية اقتصاده، هو الإنسان نفسه، والذي يُشكّل المورد الأهم فوق كل موارد الأرض، وهو المورد البشري، إذ لا قيمة لكل موارد الأرض من غير الكادر البشري الذي يساهم في الاستفادة من موارد الأرض وبالتالي في تنمية الاقتصاد.
على مستوى الإنسان في السودان، فإن آخر التقديرات قبل الحرب كانت تشير إلى أن نسبة 39.3% من السكان ممن هم سنهم فوق 15 سنة لا يقرأون ولا يكتبون، عِلما بأن هذه التقديرات كانت في عام 2018. وكانت آخر الإحصائيات في عام 2001 تشير إلى أن نسبة 46% من السكان ألتحقوا بالتعليم الإبتدائي، ونسبة 21% إلتحقوا بالتعليم الثانوي، مع العلم أن النسب تتفاوت بين الولايات، أي أنها قد تزيد أو قد تنقص من ولاية إلى أخرى، إلا أن غالبية الولايات تتزايد فيها هذه النسب بسبب تردي الخدمات وقِلة التنمية فيها، هذا إن لم تكن من المناطق المتأثر بالحروب.
وقبل الحرب، كانت الأرقام تشير إلى أن من بين كل 10 أشخاص يوجد فقط 3.4 يشغلون وظائف في سوق العمل، أي أن نسبة 34% من السكان يشغلون وظائف (جميعهم فوق سن 15 سنة) من بينهم نسبة 11% عاطلين (أي لا يشغلون وظائفهم الفعلية).
وعلى مستوى التعليم الجامعي، كانت الأرقام قبل الحرب تشير إلى نسبة 16% من سكان الريف هم ممن يلتحقون بالجامعات السودانية، بينما كان يلتحق بها نسبة 21% من سكان الحضر.
وبفرضية أن هذه النسب كانت جميعها تحصل على الشهادات الجامعية، فإن الآلاف من خريجي الجامعات قبل الحرب كانوا يغتربون ويهاجرون خارج السودان للحصول على وظائف تساهم في تحسين ظروفهم المعيشية لهم ولذويهم.
المُلاحظ في هذه النسب على مستوى التعليم وعلى مستوى العمل جميعها أقل من 50%، ما يعني أن إنسان السودان كان في الغالب بين النسب التي تزيد عن 50% على مستوى عدم التعليم أو على مستوى عدم الدخول في سوق العمل، وهذا ما يشير أزمة السودان الرئيسية، وهي الإنسان.
وبعد حرب 15 أبريل، فهنا تحضر العبارة الشائعة “حدّث ولا حرج” فيما يخص إنسان السودان. فالأرقام تشير إلى أكثر من 24 ألف قتيل و11 مليون نازح، و4 ملايين لاجئ في دول الجوار، وتزايد نسبة العطالة فوق ال11%.
ما كان يحدث في السودان ويحدث حتى الآن هو إهمال الإنسان في المقام الأول في ظل صراعات السلطة والثروة، والتي تسببت في نشوب الحروب الطويلة في الجنوب وفي دارفور خلال عقود ماضية، وأدت إلى انفصال جنوب السودان، ومن ثم حرب 15 أبريل التي اندلعت في قلب الخرطوم.
#احنا_بنستحق_السلام
#العدالة_المصالحة
#لا_للحرب
Source