كتب #حسن_بكري_عابدين
خالد سلك وابن الوليد ودار الإيواء والمسيّرات ..
ولاية الشخصي على العقول وأولوية التشفي..
في زمنٍ تتداخل فيه الدماء مع الضجيج، والحقائق مع الشائعات، شهدنا بالأمس واحدة من أكثر المفارقات صدمة في المشهد السوداني الرقمي.
فقد نشر القيادي المدني خالد عمر يوسف مقطعًا من إحدى حلقات البودكاست على قناته في يوتيوب، ولم تمضِ ساعات حتى تحوّل الأمر إلى “قضية رأي عام”، لا لِما قاله الرجل، بل لأن عدد الإعجابات في الفيديو فاق عدد المشاهدات بأضعاف.
ومن تلك الملاحظة البسيطة، اشتعلت الأسافير، وتدفّق سيلٌ من السخرية والاتهامات، خصوصًا من الأصوات التي تقف ضد القوى المدنية، أو تلك التي جعلت من الحرب غطاءً لتصفية حساباتها السياسية.
وحيث زمان الترندات شمرنا جميعًا ودخلنا نخوض مع الخائضين متجاوزين حقيقة أنه أمر مكرور ومكرر تعرض له عدد كبير من المؤثرين وبعضهم اضطر لإنشاء حسابات بديلة حيث تراجعت مشاهداتهم أو أغلقت صفحاتهم بفضل تلك البوتات.
اتهموه باستخدام “بوتات” لزيادة التفاعل، وسخروا من “التضخيم الصناعي”، لتنطلق حفلات الشواء والسخرية وتتجاوز مسألة المشاهدات واللايكات لشواهد وضعوها على قبر الواقع وكتبوا عليها: هنا يرقد الاتساق.
لكن اللافت ليس في الاتهام ذاته، بل في درجة الشغف المَرَضي التي أظهرها كثيرون وهم يهاجمون، ويكتبون، ويُعيدون النشر كأنما اكتشفوا فضيحة كونية.
بينما في ذات الأيام، كانت هناك مآسٍ حقيقية تحدث في السودان — لا على الشاشات، بل في الواقع الدموي نفسه.
في مدينة الفاشر، شنّت مليشيا الدعم السريع هجومًا على مركزٍ للإيواء يضم نازحين هاربين من جحيم الحرب. سقط قتلى وجرحى، وتشرد من بقي، وطافت مقاطع مرئية موجعة لطفلين ينظران إلى أمّهما وهي غارقة في دمائها ولا أحد يسعفها، ومع ذلك لم يحظَ الخبر إلا بقدر يسير من التفاعل، لا يُقارن حتى بواحدٍ من عشر حجم الجدل الذي أثارته قضية “قناة يوتيوب خالد عمر”.
وفي الوقت ذاته، كانت مسيّرات الجنجويد تُمطر سماء الخرطوم وبحري وأم درمان والولاية الشمالية، تحصد أرواح مدنيين أبرياء، وتزرع الخوف في النفوس. ومع ذلك ظلّت شاشات البعض منشغلة بمناقشة “هل اشترى خالد عمر الإعجابات؟” وكأن البلاد في حال رفاهٍ تسمح بمثل هذا العبث.
إنّ ما جرى ليس مجرد انحراف في الاهتمام، بل انهيار أخلاقي في الموازين.
فحين تُصبح مأساة إنسانية لا تحرّك الضمير، بينما يتحوّل خلل في خوارزمية يوتيوب إلى مادةٍ للتشهير، فنحن لا نتحدث عن اختلافٍ في وجهات النظر، بل عن أزمة وعي وأزمة أخلاق.
يحق للناس أن يختلفوا سياسيًا، وأن ينتقدوا أداء أي قيادي مدني، بل حقًا لهم تخوينه والتشكيك في مواقفه وواجبه التحمل، حيث ضريبة التصدي للعمل العام في بلادنا هي الاستباحة.
لكن السؤال الجوهري هو: من أي منصةٍ تنطلقون في نقدكم؟
هل تنطلقون من منصةٍ أخلاقيةٍ تضع المبدأ قبل المصلحة، أم من منصةٍ مليئة بالتشفي من الخصوم والانتقام والاصطفاف الأعمى؟
الناقد الحقيقي يقف على أرضيةٍ من القيم، لا على كومةٍ من الكراهية.
أما أولئك الذين يسخرون من القوى المدنية بينما يصمتون أمام جرائم الحرب ويفاضلون بينها ، وتمتلئ صفحاتهم بالسخرية من القوى المدنية بينما الجنجويد يعودون إلى حضن الوطن ويصبحون قادة، فهم لا ينتصرون للحقيقة، بل يكرّسون لواقعٍ مشوّهٍ يجعل من الضحية متَّهماً، ومن القاتل حديثًا عابرًا في الأخبار في مرحلة، ثم بطلاً عائدًا للصواب في مراحل أخرى، ويكون النثر والنشيد لجنجويدي أصبح كخالد بن الوليد.
لقد كشفت هذه الواقعة هشاشة الخطاب العام في السودان، وأظهرت أن كثيرين لا يكرهون الحرب بانتهاكاتها وأوجاعها وجنجويديها بقدر ما يكرهون من يعارضها.
فعداؤهم للقوى المدنية أعمق من عدائهم للجنجويد، وكراهيتهم للفكرة المدنية تتجاوز كراهيتهم للرصاصة التي تقتل أبناءهم وتعسكر حياة الناس.
وسواء من يبرّر للمليشيات، ويهوّن من جرائمها بفقه محاربة الفلول، أو من يتجاوز جرائمها بينما يشهر سيفه في وجه المدنيين، لا يمكن أن يُوصَف إلا بأنه شريك في إدامة الحرب.
فالحرب لا تستمر بالسلاح وحده، بل تُغذّيها هذه العقول التي انحرفت عن البوصلة الأخلاقية، وجعلت من الكيد السياسي غايةً تتقدّم على كل شيء — حتى على الحياة نفسها.
في النهاية، تبقى الحقيقة الموجعة:
أن من يملأون الأسافير صخبًا ضد القوى المدنية لا يفعلون ذلك دفاعًا عن الوطن، بل عن كراهياتهم القديمة.
وما لم نستعد ميزان الأخلاق قبل ميزان السياسة، سيظل هذا الوطن يدور في دوامةٍ من الدم والعبث، لأن من يعادي المدنيين أكثر من المليشيات، يعادي فكرة الدولة ذاتها وإن توشّح بشعارات بقائها.
لنفكّر في ذلك ونتفكّر، ليست وصيةً إنما وصاية، ونشهد للبعض أنّهم فدوا هذه الأرض بدمائهم قبل أن تسيطر عليهم الغبائن وتعمي البصائر ويكون الانحراف.
لك الله يا شعبنا.. لك الله يا سودان.
Source