الخروج من الديار مماثل لقتل النفس
د. محمد زيدان عبده زيدان
الهجرة
كثيراً ماتنحصر دراستنا للحظات التاريخية في ما أحدثته من تغيير في مجرى التاريخ وكيفية ذلك دون التعمق في الدروس المستفادة منها على المستوى التأسيسي المُوَجِهِ للفعل الإنساني. وهنا تكمن الحوجة للفلسفة، حيث هي حسب حسن بن حسن نمط تفكير إنساني يبحث في التجربة الإنسانية وفي الحركة بين التاريخي والأساسي. ولما كانت الهجرة حدثا محوريا في مسيرة الأمة وتاريخها كان لزاما أن نتوقف عندها كثيرا تدبرا وتفكرا لبعض دروسها وهي تمثل تطبيقا ونموذجا نبويا مهتديا بنور الوحي لحركة تغيير تنتظم الفرد والمجموعة.
“وَاللهِ إِنكِ لَأحَبُ البِقَاعِ إِلى الله، ووالله إِنكِ لأَحبُ البِقاعِ إِلَيَ، ولَولَا أَن قَومَكِ أَخرَجُونِي مَا خَرَجْتُ” كانت هذه كلمات النبي -صلى الله عليه وسلم- مغادراً مكة مُظهراً حبهُ لها، حيث حب الأوطان لا يعارض الأديان. ولكن الدرس هنا بليغٌ والرسولُ وهو مؤيدٌ من عند اللهِ يغادِرُ موطنهُ ونشأته طريداً ومكرهاً كحال كل حركة بعثٍ جديدةٍ تُواجِهُ القَديمَ البَالِي وتُواجِهُ أصحاب المصالح المرتبطة بهذا القديم البالي، فتُوَاجِهُ نفسَ المصير من تهديدٍ ووعيدٍ ونفيٍ وتشريد. والإسلام وهو يؤسس لمفاهيمَ جديدة يعتمد فيها الإنسان على نفسه آخذا بسنن الله الكونية كان لابد أن يعلم أتباعه أن لا سبيل لنشر دعوتهم وتمكين دينهم إلا ببذل الجهد والتضحية لتحقيق الأسباب المتعلق بها تحقيق النتائج.
طلب الإسلام للحرية ليس طلبا مرحليا، وموقفه منها ليس موقفا نفعيا براغماتيا، بل كانت الآيات صريحة بأن لا إكراه في الدين بعد أن تبين الرشد من الغي ولم يكن الجهاد من بعد ذلك إلا طلبا للحرية وإزالةً للقيودِ.
تعلمنا الهجرة أن لامجال للمعجزات لنجاح الفكرة مهما كانت سامية ونبيلة ومؤيدة من عند الله ومسددة بنور الوحي، وإنما معاناة وتخطيط لذلك ثم من بعد ذلك تأتي الفتوحات الإلهية. لذلك كان قول الرسول لصاحبه “إن اللهَ مَعَنا” في الغار مهاجرا درسا بليغا بأن معية الله لا تعني التكاسل. فمعية الله حاضرة في كل زمان ومكان، ولكن نصرهُ مشروطٌ بعملٍ وجهد، فالنصرُ لا يتحقق بالدعوات ولا بالتضرع وحده والأمنيات، فإن وعد الله لا يتحقق إلا بالإيمان الدافِعِ للعملِ الصالح “وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِنَنَ لَهُمْ دِينَهُم الذي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدلَنهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون”.
إن الخروج من الديار أمرٌ صعبٌ على النفس البشرية حتى عدهُ القرآن مماثلاً لقتلِ النفس “وَلَو أَنَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُم أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنهُم وَلَوْ أَنَهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَد تَثْبِيتاً”. كان الهدف المتحقق من الخروج عظيماً ومطلباً أساسيا، ولم يكن الرسول الكريم يطلب أمراً غير الحرية فقد كان يدعو الناس في موسم الحج “هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي” فمنع قريش له كان هو سبب الهجرة إلى المدينة سبقتها هجرات أخرى للحبشة حيث فيها “ملك لا يُظلَم عندَهُ أحد” ليتحقق شرط الحرية اللازم لنجاح الدعوة.
إن طلب الإسلام للحرية ليس طلبا مرحليا، وموقفه منها ليس موقفا نفعيا براغماتيا، بل كانت الآيات صريحة بأن لا إكراه في الدين بعد أن تبين الرشد من الغي ولم يكن الجهاد من بعد ذلك إلا طلبا للحرية وإزالةً للقيودِ والعوائقِ المادية التي تحول بين الناس وبين ما يعتقدونه بحرية “وَقَاتِلُوهُم حَتى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَ
Source by حركة المستقبل للإصلاح والتنمية – السودان