البرهان واختبار النوايا : بين تطهير الجيش وتسليم بقية المتهمين
(الحلقة الثانية)
لم يكن ذكر أحمد هارون في الحلقة الأولى انتقائية أو انحيازاً عرقياً كما اعتقد البعض، وإنما لأنه جسّد رمزاً لاستمرار نفوذ الإسلاميين في لحظة سقوط النظام، فقد تولى رئاسة المؤتمر الوطني في اواخر أيام إنهيار النظام، وكان بذلك حلقة وصل بين الحزب والدولة والجيش. غير أن المعركة الحقيقية لا تقف عنده وحده، بل تتجاوز الأفراد إلى بنية كاملة شكّلتها شبكة مدنية عقائدية متأسلمة نجحت في التغلغل داخل مؤسسات الدولة، وأخضعت الجيش والأمن والقضاء معًا لمنطق الولاء الحزبي بدلاً من المهنية والاستقلالية.
هذه الشبكة يقودها الصف الأول من القيادات المعروفة التي مثّلت واجهة المشروع، مثل علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع وعلي كرتي وعوض الجاز وسناء حمد وإبراهيم أحمد عمر. هؤلاء صاغوا خطوط الأدلجة الكبرى: ربط الترقيات والمناصب بالانتماء السياسي، إدخال ثقافة التعبئة عبر الدفاع الشعبي، توفير الغطاء المالي والفكري، وحتى ممارسة سلطة مباشرة على الجيش كما فعلت سناء حمد في التحقيق مع قياداته بعد سقوط البشير. لكن خلف هؤلاء الصف الأول هناك صفوف ثانية وثالثة من الكوادر الأقل شهرة، تولت أدوار التنفيذ والتسيير وإدارة الملفات الخفية، بعضها في الإعلام والجامعات والنقابات، وآخرون في الأجهزة الإدارية والفنية، بحيث ضمنوا استمرارية المشروع حتى عند سقوط بعض الوجوه. هذه المستويات المتعددة تؤكد أن الأمر لا يتعلق بأشخاص بقدر ما يتعلق ببنية هرمية متشابكة، فيها قيادة عليا ظاهرة وقواعد خفية تمسك بالخيوط من خلف الكواليس.
ومع ذلك، لا تكتمل الصورة من دون الإشارة إلى دور شخصيات براغماتية مثل صلاح عبد الله قوش. فهو لم يكن عقائديًا صرفًا كالصف الأول، بل كان رجل جهاز أمني قبل كل شيء. خدم النظام بإقامة “دولة أمن فوق الدولة”، لكنه في الوقت ذاته لم يتردد في تسليم بعض الإسلاميين الذين لجأوا إلى السودان إلى أجهزة أجنبية، وبنى علاقات مع قوى خارجية وفق موازين البقاء. قوش يمثل الوجه البراغماتي لشبكة التمكين: لا تحركه العقيدة وحدها بل مزيج من الحسابات والمصالح، وهو ما يكشف أن منظومة السيطرة لم تكن عقائدية خالصة، بل عقائدية-أمنية متشابكة.
سياسات التمكين لم تكن مجرد خطة لاختراق الجيش والأمن، بل كانت مشروعًا متكاملًا هدفه إعادة هندسة الدولة من القمة إلى القاعدة. فالتنظيم المتأسلم أدرك أن السيطرة على أدوات العنف وحدها لا تكفي، وأن بقاءه يحتاج إلى إحكام قبضته على مؤسسات العدالة التي تمنح الغطاء القانوني لأي ممارسة. لذلك عمل على اختراق السلك العدلي تدريجيًا عبر التعيينات في النيابة العامة والسلطة القضائية، وتفضيل الكوادر الموالية في الترقيات، حتى غدا القضاء نفسه جزءًا من منظومة الولاء. بهذا المسار صار الجيش جهازًا عقائديًا يخضع للتعبئة الحزبية، وصار الأمن دولة موازية تدار بعقلية التنظيم والبراغماتيين، وصار القضاء مظلة حماية لا أداة محاسبة. وعندما سقط النظام وبدأت المحاكمات، بدت العدالة المحلية مشلولة؛ فالقضاة الذين تدرجوا بفضل الولاء لم يكونوا في موقع يسمح بمحاكمة رموز النظام بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بل حُصر الأمر في كوميديا عدلية سوداء، لتتحول المحاكمات إلى مشاهد مسرحية لا أكثر.
هذا هو جوهر النقاش في مسألة العدالة. فالبعض لا يزال يتشدق بأن تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية خيانة وطنية تمس السيادة، لكن الواقع يثبت أن السيادة لم تُصن حين عُجز عن محاسبة الجناة داخليًا. فالسيادة لا تُقاس بالشعارات بل بقدرة الدولة على فرض العدالة على الجميع بلا استثناء. وحين يُفرغ القضاء من استقلاليته وتُحاصر العدالة بسلطة الولاء، فإن تسليم المتهمين يصبح استعادة للسيادة في معناها الأعمق: سيادة القانون.
فالخيانة الحقيقية ليست في التسليم، بل في حماية من ارتكبوا الجرائم ومنحهم حصانة باسم السيادة الزائفة.
إن البرهان اليوم أمام اختبار نوايا حاسم: هل يمضي في تسليم المتهمين جميعاً، ويواجه الصف الأول ومن يقف خلفهم من الصفوف الثانية والثالثة، ويفكك البنية التي كبّلت الجيش والأمن والقضاء والدولة لعقود، أم يكتفي بخطوات جزئية تترك الباب مفتوحاً أمام إعادة إنتاج الشبكة نفسها بوجوه جديدة؟
داخلياً سيمثل الحسم إعلان انتصار للتيار الوطني المهني الذي يريد جيشاً ومؤسسات عدلية و أمنية خالصة الولاء للوطن، وخارجياً سيكون رسالة قاطعة بأن السودان قرر إنهاء زمن الحماية السياسية للمتأسلمين. أما التردد فسيبقي الإصلاح هشاً، والدولة أسيرة شبكة عقائدية متأسلمة متجددة، قادرة على التلون وإعادة إنتاج نفسها. وفي النهاية سيتحدد موقع البرهان في التاريخ: إما كقائد حرر الجيش والأمن والقضاء من أسر الأدلجة وأعاد بناءها على أسس وطنية، أو كحارس أخير لإرث أيديولوجي متهاوٍ لم يجرؤ على اجتثاث جذوره.
#شبكة_رصد_السودان
Source